إنه نائم... حسام الدين احمد
إنه نائم
ركب سيارته وأخذ يقودها بسرعة جنونية، محاولًا تخطي السيارات المنتشرة على الطريق، تارةً ينظر إلى المرآة الجانبية، وتارةً أخرى ينظر إلى الساعة التي أمامه، وكأنه يسابق الزمن، حتى يصل قبل فوات الأوان.
وصل إلى الشارع المؤدي إلى البيت، وبعد أن ترك سيارته أخذ يجري متعثرًا بين حافة الطريق والأشجار المتدلية من جدران البيوت، وهو ينظر إلى الجموع البائسة من الرجال والنساء المتجمهرين هناك، وقد امتلأ البيت بالأهل والأقارب الذين أتوا قبله، وهم يحيطون بالتابوت الذي وضع في وسط الغرفة.
جثا على ركبتيه وكشف الغطاء عن الجثة بلطف، وكأنه يحاول أن لا يوقظها من نومها، تقرب منها وأخذ يقبلها وهو يشعر ببرودتها، بعد أن فارقت الروح الجسد، وتجمدت الدماء في العروق، حتى أخذت دموعه تملأ المكان، وكأن الميت هو من يبكي لفراقه.
أخذ الحاضرون يحاولون إبعاده وهو يتشاجر معهم ويقول : اتركوه لا تأخذوه.. إنه نائم.
أمسك أحدهم بذراعه وهو يقول له: إكرام الميت دفنه.
قام أكبر الحاضرين سنًا بتغطية موضع رأس الميت، ثم وقف في المقدمة، وهو ينظر باتجاه باب الغرفة، محاولًا رفع صوته بين أصوات بكاء الحاضرين وقال: البقاء لله.. لا إله إلا الله.
حملوا النعش بينما أسرع هو إلى مقدمته، وكأنه يريد أن يبطئ من خطواتهم، وهم يدفعون بالنعش لوضع الميت داخل حوض السيارة التي كان يجلس في مقدمتها عندما كان حيًا.
وقف عند زاوية الغرفة الخاصة بغسل الموتى ذات الأركان المتباعدة والمساحة الواسعة، وهو يحاول الاتكاء على إحدى المصاطب المنتشرة هناك، وعيناه تذرفان الدموع التي تكاد أن تحرق خديه، وهو ينظر إلى مغسل الموتى مرددًا بصوت خافت: رفقًا بحبيبي إنه ما زال حيًا.. رفقًا بقلبه الذي ما زال ينبض بقلبي.. ليتني مكانه.
أخرَجوه خارج الغرفة حتى لا يؤثر الحزن على قلبه وهو ينظر للجسد الذي يقلبه المغسل كيفما يشاء، فجلس عند باب الغرفة وكأنه ينتظر خروج أحدهم، وهو يستمع لحديث الرجال قرب باب المسجد، وهم يتشاورون ويختلفون حول مكان دفن الميت، وهو متعجب ويردد: كيف يدفنون حيًا.
أخذت أصوات المعاول المرتطمة بالأرض ترتفع بيد الرجال الذين يحفرون القبر وهم يتبادلون الأدوار للإسراع بدفنه، حتى همس أحدهم لصاحبه وهو يقول له: اتركوه يبكي.. حتى الميت لا يعلم الآن أنه ميت، إلا بعد دفنه وسماعه لصوت قرع النعال، عندها سيعلم هو الآخر أن الأمر قد انتهى ويكفكف دموعه.
أخذ يرمي التراب فوق اللحد وهو يقول: يا قبر رفقًا حين تضمه.. ليتني أرقد مكانه، وليت العمر يهدى لأهديته عمري.
جلس عند النافذة اليمنى بعد أن ركب الباص الذي امتلأ بالركاب وهم يتحدثون في شؤون حياتهم وأعمالهم، وهو يقلب بصره بين القبور المنتشرة هنا وهناك ويقول في نفسه: يا قبور.. ترى كم من الأحباب قد ضممته.
أخذ الأولاد ينظرون إليه بعد دخوله البيت وهو يسير بخطوات بطيئة حتى دخل الغرفة وأغلق الباب، فسألت ابنته الصغرى أمها : ما أصاب أبي.. لقد نسي أن يغسل وجهه بالماء، فقد علقت بقايا الحلوى والدقيق الأبيض على لحيته السوداء حتى بدت وكأنها شَعْرَات بيض.
أسرع الأولاد ودخلوا الغرفة بعد أن سمعوا صوت بكاء أبيهم وقد ارتفع عاليًا، تجمعوا حوله وهم يحاولون تهدئته، فأخذ يضمهم إلى صدره وهو يقول: كلمة كنت أرددها كثيرًا منذ أن كنت طفلًا، لكن بعد اليوم لن استطيع قولها حتى آخر يوم في حياتي، وكأن تلك الكلمة قد حرمت عليّ، فأنتم تنادونني أبي .. أبي، وأنا لمن أقولها بعد رحيل أبي.
فأخذ ابنه الصغير يبكي لبكائه ويقول له: قلها لي يا أبي.. عندما أكبر سأكون لك أبًا.. قلها لي يا أبي.
دهشت ابنته الصغرى بعد أن وقع أبوها بين أحضانها وعيناه مفتوحتان، وقد مد ذراعه باتجاه أخيها الأصغر منها سنًا، وفي يده الخاتم ذو الفص الأسود، والذي كان جدهما يرتديه، حتى تعالت صرخات أمهما وهي تبكي وتقول: لا تذهب.. نحن بحاجة إليك، قم يا حبيبي؛ سيعود حتمًا.. لا تذهب خلفه.
فانفجرت ابنتها بالبكاء وهي تقول لأمها : اتركي أبي يرتاح قليلًا.. إنه نائم.
حسام الدين أحمد
بغداد
تعليقات
إرسال تعليق