الاعتياد... غسان دلل
الاعتياد.
يطل على الصباح..
كاس شاي ساخن..
لونه قان بلون الدماء..
زيتون..حمص..
قطعة جبن صفراء..
بلون وجود الموتى على أسرة الشفاء..
خبز ساخن معجون بالأطراف والأشلاء..
ثم فنجان قهوة..
مغلي بالكلس والماء..
أكاد أتقيأ فأمتنع..
إنه الاعتياد..
فأردد بعض العبارات والدعوات..
يا الله..
أهم..أتوكل..
وأمضي إلى عملي بخفة..
لأصل في الوقت بالكاد..
أجلس وراء مكتبي..
أتململ..
أقلب الأوراق..
أستقبل المراجعين..
وأراجع بعض المعاملات..
تدقيق.. تواقيع..
ومن الرؤساء بعض التوجيه والانتقاد..
ضوضاء..حركة..ضوضاء..انتباه..
حان موعد الصلاة..
خلت المكاتب..
توقفت المراجعات.
صمت.. خشوع..صلاة ودعاء..
انتهت الصلاة..واكتمل الدعاء..
فعدنا للحديث الذي لا ينتهي..
لقصص شهريار وشهرزاد..
عدنا للنفاق..للنميمة ..
عدنا للحسد كالمعتاد..
تقطع الوقت..
انتهى الروتين..
انتهى الدوام..
وانتهى معه وجع الرأس..
فأعود إلى بيتي ثقيلا..منهكا.. متعبًا..
وكأنني ضربت وجه الأرض بالفأس..
أزمة سير..زمامير..أمزجة حادة..
حوادث.. شتائم..اختناق..
حمدا لله..
وصلت جزء واحدًا..لا أجزاء..
غسلت وجهي..
غيرت ثيابي وتجهزت..
وجبة الغداء بالانتظار..
الطبق الأول..
جسد الطفل محمد الدرة..
الطبق الثاني..
رأس الطفل علي عبدالله عيسى..
المقبلات..
كبد جندي..
أطراف.. أحشاء..
وقلوب رجال ونساء..
أكاد أتقيأ..فأمتنع..
إنه الاعتياد..
نعاس.. حلت قيلولة المساء..
أحلام.. آمال عريضة..توقعات..
أي فريق كرة قدم سيفوز غدا..
الأحمر.. الأسود.. أم متعدد الألوان..؟؟
أغفو.. أصحو..
ألعب قليلا مع الأولاد..
حان وقت لعب الورق..
حانت المبارزة والمقهى هو الميدان..
فلينزل الفرسان..
ورق لعب..
سجائر.. أرجيلة..
بيبسي..قهوة وشاي..
والأقرب من الأصدقاء..
آه..
كم ستكون مسلية..ممتعة سهرة المساء..
ابتدأنا..وابتدأ للوقت الحصاد..
أفتح الورق..
صور دمار ووجوه شهداء..
أشعل سيجارتي.. رائحة شواء..
أنفث أرجيلتي.. رائحة شواء..
والماء في حاوية الزجاج عكر..
أقرب للون القيح من لون الماء..
فقاعات.. فقاعات..
قرقرة.. قرقرة..
كصوت مغنية حسناء..
رأس الأرجيلة يشتعل..
معسل..تنباك..
أشلاء جثث بكل النكهات..
أكاد أتقيأ..فأمتنع..
إنه الاعتياد..
ذبلت الجمرة..
قاربت الرؤوس المشتعلة ..
أن تكون رماد..
أطرق على صحن الأرجيلة..
يصرخ النادل..
حاضر يا بكاوات..
يسرع..
ينكش الرأس..
يضع جمرة جديدة..
يصب عليها ذهبا أسودا..
فتعود النار للاشتعال بعد انخماد..
أسحب.. أسحب..
نفسا وآخر..
أدخن..
أنفث السموم ..
أنفث الغبار والدخان..
آه.. آه..
اعتدل المزاج الآن..
فالصدر اعتاد الكيف منذ أكثر من ألف عام..
واعتاد العقل الغياب و الإدمان..
فالمقهى على حاله منذ قبر الأجداد الزمان..
باستثناء بعض الرتوش والديكور..
والمزيد من الفتن و الأحقاد والطغيان..
وقلة من الرواد يثيرون الشغب في المكان..
يجلسون قربنا..
يتكلمون..يتهامسون..
يلوحون بأيديهم..يصرخون..
أصواتهم..
تعلو..تخفت..تصمت..تثور..
يهبون فجأة..
يشتعلون بلا سجائر..
بلا أرجيلة..
كلهم دخان ونار..
أسترق السمع..
إنهم يستمعون للشعر..
هم يتداولون الأشعار..
كلامهم غريب..
تصرفاتهم غريبة..
صمتهم وكلامهم غريب..
ملاعين..أشرار..
لم لا يلعبون الورق مثلنا..!!
لم. لا يتصرفون..يثرثرون..
لا يرون مثلنا الأشياء..
أولئك الأوغاد..
شعرهم منكوش..
أصواتهم مبحوحة..
عيونهم مقلوبة تدور..
خوارج..مجانين..
يظنون أننا مرضى وأنهم أصحاء..
أننا منبطحون وأنهم اسوياء...
تبا لهم..
لقد أصاب القدماء حين منعوا عنهم الكلام..
وأصابوا ثانية..
حين حرموا عليهم الخيال واللقاء..
تأخر الوقت..
خلا المقهى من الرواد والأجساد..
توقفت الموسيقى..
وتوقف الحديث والكلام..
باستثناء بيت شعر ..
نسيه المتنبي على جدران المدينة..
على أسوار الزمان وموائد الشعراء..
من يهن يسهل الهوان عليه..
ما لجرح بميت إيلام..
انتصف الليل..
الشوارع هادئة..
لا أزمة سير ولا ازدحام..
وصلت..
الجميع نيام.
تزاوروا.. أكلوا.. شربوا..
واستمتعوا بصور وقصص التلفاز..
وامتلؤوا منها..
غبارا وضبابا وأوهام..
فاليوم كان عاديا..
رصاص بالقرب..
رصاص في البعد..
قصف..انفجارات..موت ودمار..
وعدد القتلى والجرحى..
يتأرجح كزئبق ماء..
عشرة.. مائة..لا فرق..
هزيمة..نصر مزيف..لا فرق..
كلمات نصر وواقع الأمر انكسار..!!
أكاد أتقيأ فأمتنع..
إنه الاعتياد..
فأنام.. أنام..
هادىء البال..
تراودني.. أحلام وأحلام..
تتطفل عليها بعض الصور والأوهام..
وطن..
حرية..وحدة..
تحرير..عودة..
عدالة..مساواة..
أطفال حجارة..
شهداء..شهداء..
أكاد أدرك..
أكاد أدرك فأمتنع..
إنه أنا.. إنه أنتم
إنه التبلد..
إنه الاعتياد..
غسان دلل..
محمد الدرة الطفل الذي قتلته قوات الاحتلال
وهو يختبئ في حضن والده بمدينة غزة.
على عبدالله عيسى
الصبي الذي قطع رأسه الإرهابيون في سوريا.
تعليقات
إرسال تعليق