تاج الدين الاخلاق... صخر العزة

 تاج الدين الأخلاق 

أتساءل هل جمال الوردة وحدها يعطيك حُسن رائحتها إذا لم تشُمُّها وتعرف مدى قوة رأئحتها ؟ كيف سيعرف الناس أثر عطرها عليك إذا لم يُشم من قِبلهم ؟ وهل يُمكن أن تحكم على أي شيءٍ في الحياة قبل أن تعرف مزاياه وجوهره وتتعامل معه لتحكم عليه إن كان جيداً أو سيئاً ؟ وما أقصده في ذلك أن المظهر الخارجي لا يدُلُّ على الجوهر ، ولا يمكن أن تعرف الجوهر إذا ما تعاملت به لتعرف مزاياه وصفاته ، وهذا المنحى ينعطفُ على الإنسان فمظهر الإنسان لا يدُلَّكَ على جوهره ، والحكم على جوهر الإنسان يكون بالتعامل معه لمعرفة خصاله وصفاته وسجاياه ، فقد ترى إنساناً يتصِّف بصفات التدين وتسمعُ كلامه ومواعظه ونرى إلتزامه بمناسك العبادة من صلاة وصيام وزكاة وحج ، ولكن ترى تعامله مع الناس عكس عبادته فتراهُ فظاً في التعامل وترى منه النميمة والنفاق والكذب والرياء ، فأين هذا من عبادته وتديُّنه ؟ فهل الدين هو فقط عبادات وأداء حركات أم أن هناك عاملٌ آخر حضَّ عليه الإسلام ألا وهو الأخلاق ، فقد نرى بعض الناس ليس من ديننا أو كافراً لكن أخلاقه وتعاملاتهُ مع الناس تُحببُ الناس إليه وتحترمه ، فكفار قريش قبل أن يعرفوا الإسلام ، كانت عندهم صفاتٌ وخصالٌ حميدة تدلَّ على أخلاقهم ونبلهم فكانوا يتمتعون بالمروءة والنخوة والشهامة والعفة والوفاء ، وأذكر في هذا الصدد كيف أنَّ أبا جهل رفض اقتحام بيت النبي صلى الله عليه و سلم خوفا من فضيحة ترويع نسائه لأنه كان عندهم إقتحام البيوت أخلاقٌ ذميمة تجلب العار  وكان ذلك عندما  اختار كفار قريش رجلا من كل قبيلة ليقتلوا محمد صلى الله عليه و آله و سلم، وقد ظلوا واقفين على باب بيته طول الليل ينتظرون خروجه للصلاة، ولم تسول لهم أنفسهم اقتحام البيت، وحين  طال انتظارهم  قال أحدهم :   "لنقتحم عليه داره"، فرد عليه أبو جهل قائلاً : ( لا تتحدث العرب أني أروع نساء محمد ) فرفض خوفاً من أن يكون هناك نساءً في البيت  فيهتك سترهم فطلب من الجميع أن يتريثوا لعل الرسول يكون موجودا ويخرج ويقتلوه ، فجاهلية اليوم لا تتحلى بمروئة وجاهلية الماضي .

فالسؤال ما علُاقة الدين بالأخلاق وهل الأخلاق سابقةٌ للدين ؟ فأقول نعم إن الأخلاق هي سابقة للدين ولكن مُقترنتانِ معاً  وهي فِطرة من الله للإنسان منذ الخليقة ، وأتت الأديان بعدها لتنزهها وتهذبها وتضع أُسس التعامل بين البشر بعضهم مع بعض ، فكمال الدين بكمال الأخلاق ، وكمال الإنسان بثلاث  وهي خلقِهِ وخُلُقه وجوهره ، فلا تحكم على الجوهر من خلال المنظر ، ولا تحكم على الجوهر إلا بعد التعامل والحكم على هذا الإنسان من حُسن تصرفاته مع الناس لكي تعرف ماهَّية أخلاقه وحُسن عبادته ، والخلق ما أقصده ليس شكل الإنسان فقط بل مظهره من ملبسه ومأكله ومشربه وعدم تشبُهه بالكفار ، وخُلُقه بحُسن تعامله مع الناس وطيبته ومكارم أخلاقه التي فطرها الله عليها ، وحُسن جوهره يكون بتدينه وإخلاصه في العبادة لله تعالى وتجرُّده في العبادة ، وليس كبعض من يؤدون مناسك العبادة كعادة ٍ فقط ، ولكن تعاملهم مع الناس لا تمُتُّ بصِلة بعبادتهم وتدينهم  ، وهذا ما نراه من بعض شيوخ النفاق وشيوخ السلاطين الذين يوزعون الفتاوى حسب أهوائهم ومصالحهم وما يُمليه عليهم سلاطينهم ، وهم بذلك يكونون بعيدين عن سماحة الدين الحنيف الذي يحضُ على مكارم الأخلاق 

أن الإنسان يميل بالفطرة إلى العبودية لثلاثة أشياء وميلهُ هذا سيجعله إما لهوى نفسه أو لمتاع الدنيا أو يكون عبداً لربه ، وحتى يتجاوز ذلك ليكون عبداً لربه عليه أن يتخطى هوى النفس ومتاع الدنيا وهذا يكون بتهذيب النفس بالأخلاق وترسيخها بالدين ، وقد شرَّف الله الإنسان عن باقي مخلوقاته لكي يُطيعوه ويعبدوه ومن أجل إعمار الأرض التي إستخلفهم فيها ، وقد بلَّغ الله الملائكة بالأمر الإلهي إذ قال تعالى : ( وإذ قال ربُّك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة ) وقد خلق الله الإنسان بأوصاف وإستعدادت وبأحسن تقويم يغبطه الملائكة عليه لقُربه من الله تعالى وقال تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) فعلى الإنسان أن يحاول الوصول إلى درجة الكمال وذلك يكون باتباع ارشاد الأنبياء والأولياء ، وذلك الإرشاد الذي يدعونا إلى تزكية نفوسنا وتصفية قلوبنا ، والتخلص من الطباع والصفات السفلية الموجودة بداخلنا والتي يزرعها الشيطان بأنفسنا والعمل على تنمية الصفات الروحانية المتمثلة بالأخلاق الحميدة . 

إن الله عزَّ وجلْ عندما أرسل الأنبياء والرُسُل إلى الناس لهدايتهم وعبادته ، فأرسل كل رسولٍ إلى قومه ، ومعظم هذه الأقوام عصت الرُسُل ولم تتبع ما أنزله الله عليهم ، ولاقى رُسُلهم وأنبياؤهم جميع صنوف العذاب والإضطهاد  منهم ، وبعضُ هذه الأقوام حرَّفت الكُتُب السماوية التي أُنزِلت لهدايتهم حسب أهوائهم ، فكانت عاقبة الله وخيمة لهم ، وكانت هذه الأقوام تعيش حياة مجونٍ ولهو وعبودية للأوثان والأصنام ولأشياء أخرى غير عبادة الله ، إلى أن أرسل الله عزَّ وجلْ في النهاية خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حاملاً رسالة الإسلام للناس كافةً وناسخة لكلِّ الديانات التي سبقتها ، وقد أنزل الله عزَّ وجلْ رسالته على أمة العرب في الجزيرة العربية ، وقد اصطفاهم واختارهم الله ليكونوا حملة رسالة الإسلام لأنهم رُغمَ كُفرهم لكنهم كانوا يتمتعون بمكارم الأخلاق وأقرب إلى الفطرة الإنسانية عن باقي الأمم الأخرى ، ولم تكن حياتهم تصل إلى ما وصلت إليه الأقوام المدنية من مجون وإنحلال وكفر ، ولا يؤمنون بشيء ، فالعرب كانوا يتمتعون بأخلاقٍ حميدة كالنجدة والنخوة والشهامة والكرم والعفة وألإباء والوفاء ، والسبب الآخر لإختيارهم هو موقع العرب المتوسط بين الأمم الغارقة بالضلال والتيه والإنحلال الخُلُقي والطُغيان ، وكان العرب أكثر أخلاقاً وتعفُفاً من هؤلاء ، فكانوا مؤهلين لحمل رسالة الإسلام ونشر الدين الحنيف ونشر الخير والعدالة والأخلاق الحميدة بين جميع الناس ، ومن أسباب اختيارهم أيضا وجود البيت العتيق ( مكة ) والكعبة المُشرفة وهي أول بيت للعبادة وضعه الله على الأرض مثابةً وأمناً للناس ، وكذلك لتميز اللغة العربية وهي لغة أهل الجزيرة عن باقي اللغات الأخرى ، ولا بُدَّ من الإشارة أن الله إختار العرب وفضَّلهم عن باقي الأمم لتكون الرسالة فيهم إبتداءاً وهذا تكليف أكثر مما هو تشريف  ، وليس تفرقة بين العرب وغيرهم ولهذا كان في الإسلام بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصُهيب الرومي وغيرهم من الأقوام الأخرى ممن دخلوا في الإسلام لهم ما لهم وعليهم ما عليهم كباقي عامة المسلمين بغضِّ النظر عن عِرقهم ولونهم فكلهم سواء لا فرق بينهم بأي شئ وكلهم سواسية في الإسلام ،  وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا اسود  إلا بالتقوى ) ، وقد كانت الشعوب الأخرى تعبد الأوثان وتعيشُ حياة بربرية وغارقة في الخرافات والأساطير التي لا تُفيد في دينٍ أو دُنيا كشعوب الهند والصين واليابان ، وكذلك اليهود الذين كانوا مُشتتين وقد حرَّفوا الدين وقتلوا أنبياءهم واختلقوا الحكايات الكاذبة على أنبيائهم ، وكذلك الحال بالنسبة للنصارى من الروم فقد حرَّفوا دينهم وكتبهم عن كتاب الله عزَّ وجلْ الذي أنزله الله على سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام .

لهذا كُله وكما ذكرت فقد اختارالله العرب وأهل الجزيرة لأنهم أقل انحلالاً وأكثرُ أخلاقاً من الشعوب الأخرى ، فكرَّمهم الله بأن بعث منهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لنشر الإسلام في العالم وقد قال تعالى فيهم : ( كنتم خير أُمةٍ أُخرِجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المُنكر وتؤمنون بالله )   وقد بعث الله رسولنا الكريم لنشر الإسلام للناس كافة واصطفاه لأخلاقه العظيمة ولعلو شأنه وشأن قبيلته بين العرب ، وقد خاطب الله عزَّ وجلْ رسولنا الكريم إذ قال تعالى : ( وأنك لعلى خُلُقٍ عظيم ) ، وبدأ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسالته بين أهله والذين هم حملوا رسالة ألإسلام إلى كل أنحاء العالم وفرضوا احترامهم على كلِّ بُقعةٍ حلّوا فيها لعلوِّ أخلاقهم ، وتنزهت أخلاقهم بالدين الحنيف الذي لا تنفصم عنه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنما بُعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق ) فأتى الدين الإسلامي ليُنزه النفس ، وليرسخ الأخلاق الحميدة ويزرع أخلاقٍ جديدة كالصدق والأمانة وغيرها من صفات أخرى نشرها ألإسلام .

إن ألإسلام إنتشر في كل مكان بالعالم ودخلت العديد من الأمم في ألإسلام لعظمة هذا الدين وسماحته ، ولمكارم الأخلاق التي حملها المسلمون في كل مكان ، ولكن أين نحن الآن من كلِّ ما سبق ؟ فما نرى إلا الدمار والهوان والتشرذم والهوان وتقليدنا للغرب بكلِّ شيء لا يمتُّ بصلة لديننا ، فما نراه من إنحلال خُلُقي في معظم دولنا يبعدنا عن عاداتنا وتقاليدنا وشيمنا وديننا الحنيف ولا يمتُ لنا بصلة ، وهل هذه هي ضريبة الحضارة المفروضة علينا والتي نتغنى بها ، فلا صلاح لنا إلا بعودتنا إلى ديننا وتعاليمه السمحة  فما نراه من كثير من المسلمين من نفاق وكذب ورياء يشوه الصورة المشرقة لديننا ، وكما قال الشيخ محمد عبده عندما ذهب لمؤتمر في باريس عام 1881م وعاد بعدها إلى مصر : ( ذهبتُ للغرب فوجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين ، ولما عُدت للشرق وجدت مسلمين ولكن لم أجد إسلاماً )  وما قاله إلا بعد أن رأى التطور والحداثة والنظام وحُسن التعامل يقابله في بلداننا الفوضى وعدم المسؤولية والتراجع والتخلُّف في بلدانا العربية والإسلامية بشكل عام  والعربية خاصة  ولكن نقول للشيخ محمد عبده الإسلام موجود وثابتٌ وراسخ إلى أن تقوم الساعة ، ولكنه بحاجة إلى إعادة الوازع الديني وتطبيق تعاليم ديننا الحنيف الذي به نرجع إلى عزنا ومجدنا وقيمنا وحضارتنا  ، ولله درٌ شاعرنا حافظ إبراهيم حين قال عن الأخلاق 

   فإذا رُزقتَ خليقةً محمودةً                          فقد اصطفاك مُقسَمُ الأرزاقِ

فالناسُ هذا حظَّهُ مال وذا                          عِلمٌ وذاك مكارمَ الأخلاقِ

لا تحسبنَّ العِلمَ ينفعُ وحده                          ما لم يُتوّجُ ربَّهُ بخَلاقِ

كم عالمٍ مدَّ العلومَ حبائلاً                            لوقيعةٍ وقطيعةٍ وفِراقِ

وفقيهٍ قومٍ ظلَّ يرصدُ فقههُ                         لمكيدةٍ أو مستحلَّ طلاقِ

             يمشي وقد نصبت عليه عمامةً                   كالبُرجِ لكن فوق تلَّ نفاقِ

 

 صخر محمد حسين العزة 

                                                                                    عمان – الأردن

27/1/2022

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سافرت نحوك....بقلم عيسى جرابا

قل لي يا قلم… كلمات الشاعر نافز ظاهر

اجازة... علاء، عطية علي