ممرضة تقع بحب مريضها.... فؤاد زاديكي

 ممرِّضَةٌ تَقَعُ فِي حُبِّ مَرِيضِهَا


بِقَلَمِ فُؤَاد زَادِيكِي


فِي مُسْتَشْفًى صَغِيرٍ بِإِحْدَى ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ، كَانَتِ الْمُمَرِّضَةُ "رُبَى" تَعْمَلُ بِحُبٍّ وَ إِخْلَاصٍ، تَحْنُو عَلَى مَرْضَاهَا وَ كَأَنَّهُمْ أَفْرَادٌ مِنْ عَائِلَتِهَا. كَانَ لَدَيْهَا مَرِيضٌ يُدْعَى "سَامِر"، رَجُلٌ أَعْمَى فَقَدَ بَصَرَهُ بِسَبَبِ حَادِثٍ مَأْسَاوِيٍّ. دَخَلَ "سَامِر" حَيَاتَهَا كَمَرِيضٍ، لَكِنَّهُ أَصْبَحَ تَدْرِيجِيًّا شَيْئًا أَكْبَرَ فِي قَلْبِهَا.


كَانَتْ "رُبَى" تَشْعُرُ بِالْأَسَى لِأَجْلِهِ؛ لَيْسَ فَقَطْ لِأَنَّهُ فَقَدَ بَصَرَهُ، بَلْ لِأَنَّهُ بَدَا وَ كَأَنَّ النُّورَ غَادَرَ حَيَاتَهُ بِالْكَامِلِ. كَانَتْ تَقْضِي سَاعَاتٍ طَوِيلَةً تَعْتَنِي بِهِ، تَقْرَأُ لَهُ الْكُتُبَ، تَصِفُ لَهُ الْعَالَمَ مِنْ حَوْلِهِ، وَ تُحَاوِلُ أَنْ تَرْسُمَ ابْتِسَامَةً عَلَى وَجْهِهِ.


ذَاتَ يَوْمٍ، لَاحَظَتْ أَنَّ قَلْبَهَا يَخْفِقُ بِشِدَّةٍ كُلَّمَا اقْتَرَبَتْ مِنْهُ. كَانَتْ تُرَاقِبُ مَلَامِحَهُ الْهَادِئَةَ، وَ تَسْتَمِعُ إِلَى نَبْرَةِ صَوْتِهِ الْعَمِيقَةِ. أَدْرَكَتْ أَنَّهَا لَمْ تَعُدْ مُجَرَّدَ مُمَرِّضَةٍ بِالنِّسْبَةِ لَهُ، بَلْ كَانَتْ مَشَاعِرُهَا تَنْمُو وَ تُزْهِرُ شَيْئًا أَكْبَرَ، شَيْئًا يُشْبِهُ الْحُبَّ.


لَكِنَّ "رُبَى" كَانَتْ تَخْشَى أَنْ تَبُوحَ بِمَشَاعِرِهَا. كَانَتْ تَسْأَلُ نَفْسَهَا: "هَلْ سَيَقْبَلُ؟ هَلْ سَيَفْهَمُ أَنَّ مَا أَشْعُرُ بِهِ لَيْسَ شَفَقَةً بَلْ هُوَ حُبٌّ حَقِيقِيٌّ؟" وَ رَغْمَ تَرَدُّدِهَا، بَدَأَتْ تُعَبِّرُ عَنْ حُبِّهَا بِطُرُقٍ غَيْرِ مُبَاشِرَةٍ؛ كَانَتْ تَضَعُ زَهْرَةً عَطِرَةً بِجَانِبِ سَرِيرِهِ، تَخْتَارُ الْكُتُبَ، الَّتِي تَحْوِي قِصَصًا عَنِ الْحُبِّ وَ الْأَمَلِ، وَ تَقُولُ لَهُ كَلِمَاتٍ مَلِيئَةً بِالدِّفْءِ.


لَاحَظَ "سَامِر" تَغَيُّرًا فِي نَبْرَةِ صَوْتِهَا، فِي طَرِيقَةِ تَعَامُلِهَا مَعَهُ. قَالَ لَهَا يَوْمًا: "رُبَى، أَشْعُرُ وَ كَأَنَّكِ تُضِيئِينَ عَالَمِي رَغْمَ ظَلَامِي. مَاذَا يَحْدُثُ؟"


ابْتَسَمَتْ "رُبَى" و بدونِ تَرَدُّدٍ، أجَابَتْهُ: "سَامِر، أَنَا... أُحِبُّكَ. لَيْسَ لِأَنَّنِي أَرَاكَ ضَعِيفًا، بَلْ لِأَنَّكَ عَلَّمْتَنِي مَعْنَى الْقُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ. أَحْبَبْتُ قَلْبَكَ، وَ أَحْبَبْتُ كُلَّ شَيْءٍ فِيكَ."


صَمَتَ "سَامِر" لَحْظَةً، ثُمَّ قَالَ: "رُبَى، لَمْ أَتَخَيَّلْ أَبَدًا أَنَّ أَحَدًا سَيَرَانِي كَمَا تَرَيْنَنِي أَنْتِ. أَشْعُرُ أَنَّكِ النُّورُ الَّذِي افْتَقَدْتُهُ، وَ لَكِنْ... كَيْفَ يُمْكِنُنِي أَنْ أُحِبَّكِ وَ أَنَا لَا أَسْتَطِيعُ حَتَّى أَنْ أَرَاكِ؟"


قَالَتْ "رُبَى" بِلَهْفَةٍ: "أَنْتَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَنْ تَرَى لِتُحِبَّ. الْحُبُّ إِحْسَاسٌ، وَ أَنَا أَثِقُ أَنَّ قَلْبَكَ سَيَعْرِفُ طَرِيقِي."


ابْتَسَمَ "سَامِر"، وَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ فَقْدِ بَصَرِهِ، شَعَرَ بِأَنَّ الظَّلَامَ قَدْ تَرَاجَعَ قَلِيلًا، وَ أَنَّ شُعَاعًا مِنَ النُّورِ اخْتَرَقَ قَلْبَهُ.


وَ هَكَذَا، بَدَأَ الْإِثْنَانِ رِحْلَةً جَدِيدَةً، مَلِيئَةً بِالتَّحَدِّيَاتِ، وَ لَكِنَّهَا غَارِقَةٌ فِي الْحُبِّ وَ الْأَمَلِ، فَلَا يَجِبُ أنْ نَسْتَسْلِمَ لليَأسِ، أو نَفْقِدَ الأمَلَ مَهمَا كَانتْ ظُرُوفُ الحَيَاةِ قَاسِيَةً.


المانيا في ٣ ديسمبر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سافرت نحوك....بقلم عيسى جرابا

قل لي يا قلم… كلمات الشاعر نافز ظاهر

اجازة... علاء، عطية علي