اللحظات الاخيرة...حسام الدين احمد

 اللحظات الأخيرة...


لم يمر الكثير من الوقت بين وضع رأسي على الوسادة واستسلامي للنوم وأنا أغمض عيني  ببطئ، وبين اللحظة التي تم فيها نزع الروح من جسدي، نعم شعرت ببعض الارتباك وارتعشت قليلًا، لكن لم أصرخ أو أصدر أي صوت آخر ، فكنت حريصًا على أن لا أوقظ أحدًا من النائمين قربي، أو أستغيث بأحد منهم، لمنع هؤلاء الغرباء الذين حضروا لأخذ الروح التي كانت ترافق جسدي خلال كل تلك السنوات الماضية، إذ أنهم أبلغوني: أنه لن يشعر بك أحد منهم، ولن يستطيعوا فعل شيء لك، ولا فائدة فيما تريد فعله، فهذا الأمر واقع لا محالة، ومنعه أو محاولة تأخيره هو فوق طاقاتهم البشرية.


كنت انتظر من زوجتي النائمة قربي أن تضمني أو تجرني من يدي، لأتحرر مما أنا فيه، أو لعل ذلك أن يدفع الضيوف الغرباء للرحيل، وقد أدارت وجهها إلى الجهة الأخرى، بعد أن حدث بيننا بعض الفتور قبل أن ننام، لكنها كانت غارقة في نوم عميق، حتى ابنتي الصغرى التي تركت سريرها واستلقت بيننا، كانت توقظني أحيانًا عند نومها بيننا بضربات قدميها، وأحيانًا أخرى بقبلاتها على خدي، وهي تضحك بصوتٍ مرتفع، لأخضع لطلبها ونجلس معًا ونلعب بالدمى التي ملأت الغرفة، ولكنها هي الأخرى كانت نائمة، أو أنهما لم يكونا يشعران بما يجري لي، أو أن المشكلة كانت فيَّ أنا، فمن المحتمل أني كنت لا أشعر بشيء من ذلك، وكنت منشغلًا بضيوفي الذين لم التقي بهم سابقًا؛ لأكون رهن إشارتهم، فقد علمني أبي أن الضيف سيد الدار.


بدأت أشعر بقبلات ابنتي الصغرى على خدي، لكن ليس بتلك السعادة التي كنت أشعر بها سابقًا، فقد كانت قبلاتها تؤلمني، وهي تمسح قطرات الدمع التي تنزل من عيني بيديها الناعمتين، وكذلك تزيل آثار العرق الذي على جبيني، وقد يكون ذلك كله بسبب تعامل هؤلاء الغرباء معي، إذ كانوا لا يرضون بالتفاوض، ولا يتركون أمامي خيارًا آخر سوى الِاِنقياد والقبول لما أتوا به، دون أن يسمحوا لي حتى بإيقاظ زوجتي أو تقبيل ابنتي، أو الاِتصال بأخي الكبير لطلب المساعدة، ولأخبره بما كان يدور في فكري من سداد ديوني، أو القيام ببعض المهام التي لم أؤديها، ولأعتذر له عما بدر مني البارحة.


بدأت أشعر بالأوجاع والآلام وهي تسير في جسدي بعد أن تنتقل من جزء لآخر، حتى فقدت السيطرة على تحريك قدميَّ.


أصابني الإغماء مرات عديدة، ومن ثم أعود وأشعر بمن حولي، دون أن استطيع تحريك أطرافي، إلا عيناي التي أغمضهما أحيانًا، وأحيانًا أخرى استطيع بها رؤية ابنتي الصغرى التي تحدق بعينيها في عيني بعد أن صحت، وهي تظن أنني أمزح معها.


شعرت بالعطش الشديد، ولم استطع تناول كوب الماء الذي كان فوق المنضدة قرب السرير، حتى أني عندما كنت أبلع ريقي أتألم بشدة، وكأن السكاكين تتقاتل في حلقي، وذلك بسبب جفاف فمي، أو بسبب القلق الذي راودني لجهلي بما سيحدث لي لاحقًا، حتى أن الغرباء لم يتركوا لي مجالًا للراحة، أو لاِلتقاط أنفاسي. 


أمتلأت الغرفة بالضيوف حتى شعرت أن غرفتي أصبحت أكبر من ملعب كرة الطائرة، التي كنت أتردد إليه أيام نهاية الأسبوع لقضاء بعض الوقت، حتى أن الدهشة ملأت عيناي، كلما عدت لأصحو بعد أن يغمى عليَّ، وأنا أرى أبي وأمي وأخي الصغير وبعض أقاربي، الذين فارقوا الحياة قبل أعوام عديدة، وهم قد تجمعوا في الغرفة، وبعضًا منهم يبتسم، والآخر ينظر إلي بعطف، ومنهم من يمد يده يحاول الإمساك بيدي، والآخر يومئ برأسه، وكأنهم يطلبون مني الإسراع بالقدوم، وأنا أحاول إخبارهم أني مشتاق لابنتي التي يلامس خدها خدي.


نامت ابنتي الصغرى فوق صدري، وقد أحسست بثقل وزنها وكأنها فتاة بالغة، حتى شعرت بالضيق وأنا أحاول أن أتنفس أنفاسي الأخيرة، ولكن قد قضي الأمر، إذ استطعت تحريك شفتاي ببعض الكلمات قبل أن أنام، وتنام ابنتي هي الأخرى دون أن أوقظها.


في الصباح أخذت العصافير تزقزق فوق الشجرة المرتفعة القريبة من نافذة غرفتي، بعد أن قامت زوجتي بفتحها، وهي تحاول تهدئة العصافير وهم يتشاجرون فيما بينهم، بعد أن وضعت لهم بعض الطعام في الإناء المخصص لذلك قرب النافذة، وقد حملت ابنتنا و وضعتها على سريرها، وطبعت قبلتها على جبيني، وهي تمسح بيدها على شعري، وكأنها تريد تصفيفه، والذي كانت تعبث به ابنتنا قبل أن تنام.


فجأة بدأ الصراغ يرتفع في البيت، وزوجتي تحمل هاتفها المحمول، وهي تمسح دموعها وتتكلم بكلمات لم أفهم منها شيئًا، حتى امتلأ البيت بإخوتي وأقاربي، وهم يلمسون جسدي ويفتحون عيني ويغلقونهما، وأنا متعجب مما يحدث، ومن ضجيج أصواتهم، وبكاءهم الذي أخذ يؤذيني، وأحاول أن اسأل عما أصابهم، إلا أني شعرت بأني مقيد، لا أستطيع الحركة، ولا حتى التفوه بكلمة واحدة.


مرت اللحظات بسرعة بعد أن قاموا بتجريدي من ثيابي، وتحميمي وإلباسي اللباس الأبيض، و وضعي على اللوح وحملي لإخراجي من البيت، وهم يتدافعون بسرعة، كأنهم يسيرون بي إلى عروسي الجديدة.


أصابني الهلع وأنا ملقى على الأرض، قرب المحراب في مسجد القرية ذات الجدران الطينية المتشققة، وقد اصطف أفواج الرجال قربي في صفوف منظمة، وكأنهم جيش ينتظر أمر قائده لبدء المعركة. 


وضعوني في حفرة وأخذوا يرمون التراب فوقي، وأنا أسمع أصواتهم، وأحاول الإصغاء لما يقوله ابني الصغير، لكن أخي الأكبر، رفع صوته وهو يقول: سلوا الله تعالى له الثبات.


أخذ الرجال يعودون من حيث أتوا، وأنا أسمع قرع نعالهم الواحد تلو الآخر، حتى لم يبق منهم أحد، إلا بعض الخطوات البطيئة والبعيدة، وكأن هناك من لا يريد العودة ويرغب بالبقاء، وهو مختبئ بين بعض الأشجار المنتشرة هناك، ليعود غيره ويجره معه بعيدًا عن مكاني، حتى ساد المكان صمت رهيب ولم يبق غيري أنا، فنهضت لأعود إلى منزلي بعد أن عاد الجميع، فارتطم رأسي باللحد، فعلمت عندها أني مِتُّ.


مرت الدقائق وكأنها أعوام، وأنا أجيب على تلك الأسئلة التي أعادتني إلى الوراء، إلى أيام وسنين كنت قد نسيت أحداثها، تذكرت قطعة الحلوى الصغيرة التي سرقتها من دكان الحاج عبد القادر، حين كنت طفلًا صغيرًا برفقة أبي وأختي الأكبر مني سنًا، دون علم أحد منهم، ولكن هل ينفع لو قلت أني فعلتها لمرة واحدة؟ وكذلك تذكرت اليوم الذي كسرت فيه زجاج النافذة العائد لبيت جارنا أبو أيمن، ولم أنس صفحة الغدر في كتابي والتي قمت بها ضد أحد أقاربي، ولكن رغم الفتنة التي تعرضت لها من قبلهم، فإن الذنب كان ذنبي، وتلك اللحظات التي كنت أتلمس فيها يد سعاد ابنة جارنا التي أغوتني، حتى تلك النظرات التي كنت أنظر فيها إلى بعض الفتيات اللآتي كن في الكلية التي كنت أدرس فيها، وابنة عمي التي كنت استرق النظر إليها، فقد كانت تغريني بحركاتها حتى فتنت بها، ولم أنس الكلمات الجارحة التي نطقتها في حديثي مع أقاربي وأصدقائي، ولا الكذب الذي كنت أقوله وأنا أمارس بعض أعمالي، وكذلك تذكرت اليوم الذي خالفت فيه كلام أمي حين كانت تأمرني بتغير ثيابي وعدم رمي الأوساخ على الأرض، وعصياني لأبي الذي كان يأمرني بمتابعة دروسي، وأحيانًا بالذهاب إلى السوق لشراء بعض المواد حين كان مريضًا، وكذلك تذكرت تكاسلي عن القيام ببعض الفرائض والواجبات، وفعلي لبعض المحرمات والمنهيات.


أخذ الخوف يحيط بي وأنا بين تلك الأوراق القديمة، حتى أصبحت أتذكر صغائر الأمور، ولا أعرف طريقًا لأخفي الحقائق أو ردها بالكذب، حتى شعرت بأن ذلك هو أصعب ما مرَّ بي خلال حياتي الماضية وإلى هذه اللحظات.


رأيت بعض الوجوه الجديدة على ناظري، فمنها ما كان مألوفًا وجميلًا وطيبًا، واطمأنت روحي لها، ومنها ما كان بشعًا ومخيفًا وخبيثًا، حتى أني تمنيت لو كنت أعمى حتى لا أرى بشاعة تلك الوجوه النتنة، وأخذت أنظر للنور المنبثق من السماء نحو قبري، حتى اِطمئننت وأخذت استشعر مكاني، وكذلك بالراقدين حولي، وقد أصبح لي جيران جدد، لم أكن أعرفهم قبل ذلك، فتمنيت لو أني متُّ قبل ذلك بكثير.


نعم ندمت كثيرًا بسبب ما حملته في قلبي من الكره والبغض لبعض الأشخاص، وقيامي بملأ قلبي بأمور أفسدت لونه الجميل، وقد مرت اللحظات بسرعة قبل أن استطيع إعادته لينشغل بعبادة خالقه، لكني لم أكن فيها المذنب في كل الأوقات، فأحيانًا كنت أنا الضحية، ورغم كل تلك الأمنيات فإن قلبي ما زال ينزف ويتألم، بسبب تلك الطعنات التي تلقاها من الأحباب والأصدقاء، حتى تلك الثقوب التي نحتت في أجزاء منه، ما زالت آثارها باقية.


تغير لون جسدي وأصبح مخيفًا، حتى زال عن وجهي ذاك الجمال الذي وهبه الله تعالى لي، وبدأ جسدي بالانتفاخ، وانتشرت الرائحة الكريهة في كل مكان حولي، وأخذت اليرقات والديدان بممارسة عملها المفضل، وبدأوا يأكلون لحمي، وكأنهم قد دعوا إلى وليمة بعد أن تضوروا جوعًا.


لا أعلم كم مرَّ من الأعوام وأنا راقد في مكاني هذا، لا استطيع الحركة، إلا أن روحي كانت تتنقل كالطير، لأرى ابني وابنتي وهم يكبرون بسرعة، وكأن الزمن الذي أنا فيه يختلف عن الزمن الذي يحيونه هم، فقد كانت السنين تجري، ولم يكن للساعة معنًا يذكر، وقد تزوجت ابنتي، وكذلك ابني، ورزقوا بأولاد كثر، وكان اسمي يذكر بين الحين والآخر، لكن كان كنقطة حبر على ورق، ويكاد يمحوه الزمن.


لم استطع فهم ما حصل اليوم في البيت، فقد حدث اليوم شيء غريب، أخذ ابني يسير مسرعًا بين الغرف حتى ابنتي وأحفادي، وقد تجمهر الناس في حديقة المنزل، وكأنهم ينتظرون تناول الطعام، بعد دعوتهم للمشاركة في حفل أقامته العائلة.


كان الوقت متأخرًا، فقد كان الظلام يحيط بي من كله جهة، وأصوات ذئاب اليل تكسر ذلك الصمت، وكذلك أصوات المعاول وهي تحفر الأرض، وكأن هناك من انشغل ببناء منزل لأحدهم قرب قبري.


رحل الجميع عن المكان وعاد الصمت يخالط ظلام اليل، وأنا أشعر برطوبة القبر الجديد الذي أُنشئ قربي، وإذا بنفس النور الذي بدا لي حين دخلت منزلي هذا، قد شق طريقه من السماء إلى القبر الذي بجانبي، وأنا استشعر أولئك الذين ينادون باسم زوجتي، ويذكرون بكاءها وصلاتها وحسن حالها، فسعدت روحي وكأن عظامي قد كسيت لحمًا، وأن الدماء قد تدفقت في عروقي، وأنا أحاول ضمها لصدري، بعد آخر يوم كنا فيه حين نشب بيننا بعض الفتور، وقد تغير شكلها وأبيض شعرها، فشغلت روحي أسئلة عديدة عن أولادي وأحبابي، وما جرى لها بعد رحيلي عنها، وشعرت بالأنس وكأن روحي عانقت روحها، وطارا معًا للتحليق حول بيتنا، لرؤية أولادنا والإطمئنان عليهم، حتى قال قائل:

أرقدا بسلام حتى حين.

فعدت لأرقد مكاني وأفترش التراب، وانتظر ذاك اليوم الذي أرى فيه أحبابي، فقد تجمعنا الأقدار نفسها، تلك التي فرقتنا يومًا ما.


وقد نعود لنلتقي ونتعانق، وقد تعود القلوب لتتعارف وتتآلف، ويمحو كل منا عن قلب صاحبه تلك الطعنات، لتزول بذلك آثار تلك الثقوب المؤلمة.


حسام الدين أحمد

بغداد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سافرت نحوك....بقلم عيسى جرابا

قل لي يا قلم… كلمات الشاعر نافز ظاهر

اجازة... علاء، عطية علي