قصة الايام الاتية...سالم المتهني

 الأيام الآتية   ( قصة قصيرة )


إني أعلم أن أمي يتقطع فؤادها لغيابي في تلك الناحية الجنوبية من المدينة. لا يفصلني عنها إلا سعي هين حتى أصل إليها و أقبلها و أسألها عن أحوالها فتفرح لأني ابنها البار وتخبرني عن الآتي وعن الأيام : أيام العز التي سأعيشها لأني كنت دائما أقبل التضحية و أقاسي من أجل رضاها.

إني أعلم أنها إلى هذه الساعة المتأخرة من الليل تفكر في أي مكان حللت و أي بشر قابلت. تريد أن تسمعني لأنها تعشق كلماتي و سخريتي. تعشق حتى عبوسي و تشاؤمي .. لكني يا أمي لم أعد أقدر. تهاويت و كنت أظن أني سأصمد أكثر حتى نصل إلى هناك، إلى تلك الأيام..

طال السعي، والأيام بقيت أياما تروى .. سئمت السماع وأنت لم تسأمي الحديث عن الأيام الآتية ..

مازلت تصرين أن ما يقال ينفذه الرحمان لأنه رحيم يسمع كما في تلك الأيام عندما كنت صغيرة و عندما كانت أمك تحدثك و إخوتك عن الأيام الآتية وعن تبدل الأحوال و كنتم تضحكون من إغراقها في الخيال : أن يكون لأخيك الصغير سيارة و منزل فخم ، لكن الخيال أصبح حقيقة واليوم تعجبين لم الكلام يبقى كلاما حرونا مثيرا للشفقة.؟

كنا نتلذذ بأحاديثك في الليل عن تنبؤاتك الجميلة. كنت تنمين فينا حب الحياة وأصبح لنا يقين أن ما تقولينه سيتحقق بدليل إخوتك الذين كانوا على عتبة الجوع وأصبحوا ميسوري الحال، بدليل البلاد التي كانت ترزح تحت ذل الاضطهـاد و بدليل  المرأة التي كانت كالبهيمة. القياس واضح و المستقبل أوضح وكنت تحرضيننا على الكلام الجميل، وأن نخرج أمنياتنا من أغوارها ونقولها كلاما تسمعه الملائكة، تسجّله و تصعد به إلى الرب الذي يأمر الكون ليكون فيصبح الكلام كائنا مكينا.

و كنا لا ننسى أن ننبهك قبل أن تنامي أن تري رؤية لهذا أو لذاك وننتظر الصباح حتى نسألك عما رأيت، وكنت دائما ترين خيرا: أتتك امرأة والمرأة في الحلم دنيا و أعطتك سمكـا والسمك في الحلم مال وفير. أو ترين أحدنا يصعد سلما بابتهاج والصعود ترقية و تبدل العسر يسرا و كنا نصدّق.. لكن ما جرى غير ما جرى لإخوتك عندما كنتم في تلك الأيام البعيدةوجدتي تروي لكم نبوءاتها عن الأيام الآتية.

ما جرى يا أمي أننا أصبحنا غرباء دفعنا الثمن غاليا. صحونا على انكسارنا و خيبتنا و هتف هاتف في أفئدتنا أن أمنا على حق و أن أمنياتها حق، لكن القدر خذلها و خذلنا. عيب أمي و عيب كل إنسان أنها نسيت.

نسيت أن تخبرنا أن في تلك الأيام البعيدة لما كانت جدتي تصنع بالكلام المستقبل، كان جدّي رحمه الله يشاركها الصنع بفؤاده و يطرب لكلامها حتى و إن علق في بعض الأحيان على مغالاتها في الحلم و التمني و كانت هي رحمها الله تزجره بقولها "قول إن شاء الله"

 فيضحك و يقول : إن شاء الله ما تقولين يتحقق"

أما أبي... سامحك الله يا أبي.

نسيت أمي أن تقول أن جدي كان رقيقا أرق من امرأة وبلغت به الرقة إلى حد أنه لما يكون عيد الفطر أو عيد الأضحى، كان أول من ينهض و على عينيه تبدو علامات من لم ينم و لو جُزْءًا من الليل. كان ينتظر العيد بقلب طفل و يخشى ألا ينهض فينغص على أطفاله فرحتهم بموته.

يقبل عليه أطفاله في ذلك الصباح، و كانت أمي أولهم ويرتمون في أحضانه الواحد تلو الآخر و كأنهم لم يروه منذ مدة و كأنهم شاركوه خوف  

 الموت المفاجئ. و كان يقبلهم واحدا واحدا و هو يبكي وكانوا يسألونه عن بكانه فيجيب إنه يخشى أن يأتي عيد لا يراهم فيه ولا يرونه فيطردون خوفه بدعائهم له بطول العمر بيقين أنه سيعيش إلى الأبد.

نسيت أمي أن تقول أن جدي في تلك الأيام التي كانت فيها جدتي تفك رموز أحلامها بطريقة تجعل كل الرؤى خيرا و تبشيرا بأيام أجمل كان جدي في تلك الأيام مشتتا بين ثلاثة أمكنة : بين البيت و السوق الذي يعمل فيه دلالا، و الحقل الذي يتعهده شتاء حتى يتمتع بخيراته أبناؤه صيفا و كان الحقل يبعد عن مسكن العائلة عشرة أميال يقطعها جدي على عربة يجرها بغل و لما يعود من السوق و قد بح صوته من الصياح على البضاعة، كان يعود محملا بما يقدر على 

شرائه و يطوقه  أبناؤه و بناته متطلعين إلى القفة بابتهاج يندر رؤيته هذه الأيام.

و كانت جدتي امرأة ثقيلة الحركة لسمنتها، فتنهض بعد لأي. و كانت تفتعل القسوة لأنها ترى أن زوجها يبالغ في ملاطفة أبنائه وتعتقد أنه سيفسدهم بهذا العطف الزائد. فلا بد أن تقوم هي بدور العصا الغليظة في البيت فتهرع إلى أبنائها تبعدهم عن أبيهم الباسم الضاحك لبهجتهم وتطاولهم على ما حوت القفة من غلال و خضر و فواكه

- " دعيهم يا امرأة ... ليعبثوا ما شاؤوا مادمت حيا"...

نسيت أمي أن تحدثنا عن جدي الذي بلغ به  

اللطف حدا جعله يسمح للقطط تشاركه الأكل في صحنه و كان يردّ على اعتراضات جدتي بقوله : " لست أنظف منها" ولم تخبرنا أمي عن  اضطراب حيوانات البيت و هيجانها ليلة موت جدي و كأنها حدست رحيله. 

كان يكفي أن تحدثنا أمي عن جدي حتى نعلم أن 

قياسها الحاضر بالماضي لم يكن صائبا. كان عليك يا أمي أن تحدثينا عن جدي قبل حديثك عن الأيام الآتية.

في الصباح رن جرس الهاتف، نهض متباطنا ... 

رفع السماعة،وصله صوت أمه معاتبا على عدم زيارتها ... 

 يحاول إرضاءها و تبرير غيابه :

- سأزورك إن شاء الله بعد قضاء بعض الشؤون الأكيدة.

- لا ... يجب أن تزورني اليوم ... أريد أن أروي 

لك حلما رأيته البارحة...حلما رائعا... أكيد سيتحقق هذه المرة. 


سالم المتهني( تونس )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سافرت نحوك....بقلم عيسى جرابا

قل لي يا قلم… كلمات الشاعر نافز ظاهر

اجازة... علاء، عطية علي