النقط... قصة ل سالم المتهني

 النقطة   (قصة قصيرة)


            تعود أن يحلل كل ما يصيبه من ضر أو نفع،يرجعه إلى أسبابه مقدرا نتائجه،وصل به الأمر إلى تحليل أحلامه و تأويلها وفق ما حصل عنده من مبادئ عامة في علم النفس، كانت كافية بالنسبة إليه لفك الرموز و تأويلها فيؤول الحلم بالاعتماد على ذاكرته و مشاهداته: ما سمعه، ما قرأه، ماعاينه طفلا و شابا، يرجعه إلى شهواته و أمنياته:ما تحقق منها و ما بقي جمرا يتلظى. 


ما أصابه اليوم عجز عن تحليله، لم يكن الأمر خارقا،سمع به قبل ذلك،لكنه لم يقدر أن يكون من ضحاياه. 


بدأ الأمر بشرود أصابه بغتة،كان يتحاورمع رفاقه ودون تمهيد ينصرف ذهنه عما يدور حوله ليتركز حول نقطة بعينها،لم تكن موضوعا و لا فكرة و لا ذكرى و لا حلما،كانت نقطة بلا ملامح،بلا تحديد،كانت نومة أو غفوة دون انفصال كامل عن عالم الحس. 


فهو في تلك اللحظة كان يحس بأنه في مقهى بين رفاقه و لكنه يحس كذلك بأنه في مكان آخر غائم،كان يسمع الحوار،لكن شيئا ما في رأسه يدفع ما يصله من كلام أو يطويه كمن يطوي صفحات كتاب بعجل باحثا عن صفحة بعينها .


إلى أين سيصل به الدفع؟عند أية صفحة سيتوقف؟  لم يحرص أن يوقف هذا الشرود،جاراه ليرى منتهاه،ليوغل في مجاهل الرأس.سأل نفسه مرة:من أين تأتي الفكرة؟ في أي ركن من أركان الدماغ تنام ذكرى بعينها؟ و لماذا ذكريات يريد أن يثبتها تهرب،و تضيع و تغيب؟و ذكريات أخرى يريد أن ينساها تثبت،تترسخ و تكاد تمثل أمام عينيه من جديد؟


توجس خيفة من هذه المغامرة،ماذا لو لم يقدر على العودة من هذا الشرود؟لكنه كان يستمتع بكل لحظة تمر في عالم بلا معالم،ينقاد،يتورط أكثر....قرر الآن أن يستمر.


صاح به أحد الجالسين،لم يجبه،ألح عليه بالسؤال:


-ماذا ؟أين ذهبت؟ألست معنا؟


أجابه باقتضاب شديد: لست معكم 


كانت الكلمات تخرج و كأنها ليس هو الذي نطق بها.


ينظر إلى رفاقه بعينين غائمتين. 


-أستأذن 


لم ينتبه لاعتذاره أحد غير الذي ألح عليه بالسؤال،لاحظ رحيله بالجسم و الروح،يناديه:ماذا دهاك؟ لا يجيبه و يمضي،يمضي و يحس بانتقاله،بسريانه في الشارع الطويل و يحس بالمارة و الباعة،ويتمسك بنقطته الأثيرة،تتحول النقطة إلى دائرة بلا حدود واضحة،بلا لون يمضي فيها،تنفتح على دائرة أخرى،و كل دائرة تحيل على أخرى،يتبع الدوائر و يبقى الإيهام بأن الدائرة الموالية هي آخر الدوائر. يحاول أن يوقف لعبة الدوائر،ينجح،ويعود إلى النقطة السديم،ويحس بخدر كل أطرافه.


يصل إلى البيت،يدخل،يطلب عشاءه من أمه،إخوته يشاهدون التلفاز،يراهم و يصرفهم عن ذهنه،يصرف كل ما حوله،أمه وحدها هي التي لاحظت شروده.  


-مابك؟هل أغضبك أحد؟


-لا ..لا..لم يغضبني أحد،لم أعد قادرا على الغضب،أحضري العشاء.


ينظر في صحنه،نقطته الأثيرة تتركز في الصحن. يأكل مركزا نظره في نقطة بعينها لا يحيد عنها،كلما أكل ازدادت النقطة اتساعا،يواصل الأكل،لم يتوقف إلا عندما أصبحت النقطة بحجم الصحن،يطلب من أمه صحنا آخر،تحضر صحنا آخر مستغربة أمره.


يأكل والنقطة تكبر، يكف عن الأكل و قد أصبحت النقطة بحجم الصحن،يدرك أنه بالغ في الأكل،لكنه يحس أنه بإمكانه أن يأكل أكثر،هل يطلب صحنا ثالثا؟


ينهض يغسل يديه،ينظر إلى قطرات الماء،نقاط ودوائر تجري إلى نقطة بعينها و تغيب،نقاط أخرى أم هي عينها عادت من حيث لا يدري لتجري ثانية و تغيب؟  أطال المكث أمام الحوض يرقب نقاط الماء و سريانها العجيب. 


يدخل إلى غرفته،يتمدد على سريره،يحس بثقل وفتور ثم ينظر إلى نفسه من فوق ،كيف؟ هذا أمر تعود عليه،يتخيل نفسه في مكان أعلى من المكان الذي هو فيه ثم ينظر فيرى نفسه تحت،كلما كبرت المسافة ازدادت الرؤية وضوحا. 


الآن إذا ارتفع قليلا يستطيع أن يحدد موقعه من الغرفة،و إذا ارتفع أكثر سيحدد موضعه من البيت،و إذا زاد قليلا فيستطيع أن يحدد موضعه من الحي الذي يسكن أحد منازله مع عائلته. 


هذه المرة أوغل في التحليق أكثر،فاتضح له موضعه من البلد الذي ينتمي إليه،ثم حدد موضعه من القارة التي ينتمي إليها،ووصل به التحليق أن يحدد موقعه من العالم ثم من الكون بأسره فوجد نفسه نقطة غير مرئية. 


لم ينم تلك الليلة،بقي يحلق و يعود إلى موضعه من الغرفة،من البيت،من البلد،من العالم،من الكون بأسره. 


يمعن النظر في نقطته الأثيرة تتخذ أشكالا متعددة:حيوانات عجيبة لم يرها قبل،نساء بأربعة أثداء،أعوان شرطة يركضون نحوه،يرحل إلى الصين و يعود،يصبح رئيسا للبلاد و يقتل كل الخونة ويعود،يصبح غنيا و يكرم عائلته و أطفال الحي و يعود. 


 


النقطة أصبحت نقاطا،نقاط من الضوء تتسلل إلى الغرفة. تصل إلى أذنيه حركة المبكرين من رجال الحي إلى أعمالهم. يحس برغبة في التقيؤ،ينهض يجري إلى الحوض و يتقيأ،تنهض أمه فزعة و يواصل تقيؤه محدثا أصواتا دامية،أمه تدعو الله أن يحميه،تشد جبهته،تساعده على التقيؤ،يتخلص من كل ما في بطنه،تنتهي نوبات التقيؤ،يغسل وجهه ثم يجففه،ينظر فلا يرى نقطته الأثيرة،ينظر إلى أمه التي لم تكف عن سؤاله عن صحته،يجيبها:الحمد لله،إني بخير، لقد عدت. 


 تأليف : سالم المتهني (تونس)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سافرت نحوك....بقلم عيسى جرابا

قل لي يا قلم… كلمات الشاعر نافز ظاهر

اجازة... علاء، عطية علي