الرفيقة... فتحي الخريشا
. ★ * الرَّفِيقة * ★
وآنذاك امرأة منبسطة الأسارير وذات حُسن وبصوتٍ يفيضُ بالمودةِ والبهجةِ تسأل آدم حيث تقول:
أيها المعلم الكامل آدم حدثنا شيئا عن الرَّفيِقة.
وهنا أجاب آدم قائلا :
الذّكرُ لا يَكون دون الأنثىٰ كاملا، وكذلك الأنثىٰ، بعضهم من بعضٍ من ذاتٍ واحدةٍ، لوْلَا إنّهُمَا مَعاً كيَاناً وَاحداً لمَا صَارَ لهُمَا وُجُودًا وإستمرارِيَّةٌ في حياتِنا هَذِهِ أبداً.
كلٌّ منهما وحدة في نصفِ الحَبّة لا تكتملُ إلّا بِهما للوحدةِ الجَّامعةِ الحافظةِ.
كلّ توغُّلاتي في العالمِ لا تبلغُ عمقَ أسرارِهَا دون رَفيقتي.
وجودي دون رفيقتي الأنثى كآبةُ وِحدَةٍ تشقُّ بسيفِ العطشِ كبدي، تذروني العاصفةُ أشلاءً ممزقَّةً فوقَ صخورِ الاِنفِرادِ لقسوةِ الضَّجرِ، ولِسأمِ الوحدةِ، ولأنيابِ مجاعةِ تمزِّقُ أحشائِي.
إنَّ لي في رفيقتي طهر الحياة وعمق الوجود.
إنّ لي في رفيقتي كلّ الٱجتِماعِ، دَمِي في دمِهَا يمتزجُ وكذلك أنفاسي وتختلط أوصالي بِأوصَالِهَا، يَذوبُ قلبي لِأعلىٰ نبضةٍ في حشاشةِ فُؤادِهَـا، وكـلُّ أفئدتِـي فيهـا وعليهـا وحواليها ٱرتِشَافُ مَحَبَّةٍ وٱنتشاءُ عشقٍ فلا أرتوي منها إلّا لِظمئٍ، أعانقها بدفءِ لهيبِ الصَّدرِ فِي عَراءِ النّفْسِ عِناقاً أبديّاً ووَجْدا لا تنطفئ نيرانهُ.
إنَّ حبُورَ مَسَرَّتِي العميقة حين بِعمقِ لبِّها تكًون في جوَّانِيَّتي رفيقتي وأكون بعمقِ لُبّي في كلِّ أعماقها، أنا ورفيقتي معاً في وحدةٍ واحدةٍ ولكِن لِكُلٍّ مِنا كيانَهُ، نجنحُ معًا ولكن لكلٍّ جناحِيهِ.
ليكُن إخوَتِي لكلّ منكم رفيقة، شطران مُتجاذِبَان يتقاسمَان باِنْشِراحٍ وأمْنٍ عيش الحَيَاةِ، ينهضان بِمَحَبّةٍ لِنُورِ الألفةِ، فلا دفءٌ لأحَدِكُم دُون الآخرِ، فجَسِّرُوا الهوّةَ بينكم حتى لا يبتعد اللّقاءُ، ولا يكوننَّ لقاؤكمَا إلاّ عناقاً في العراءِ بِدفءِ الضِّياءِ ولطافةِ الأنوارِ، لا خلسة في رطوبةِ وعتامةِ أقبيةِ العَبِيدِ من مثل الخطَّائين المرتعدين وكالّذِين في شُقُوقِ الظّلْمَةِ في الأثمِ والجبن يَسترِقُون حريَّة اللّقاءَ وجمال العناق.
رفيقان زوجان متجليان في شرعةِ النورِ في الأعالي يفترشان الإنسانِيَّة وتظلّلهما الإنسِيَّة.
إن الرّفيقة هي شقيقة نفسك، تلكَ الزّهرةُ الزَّاهِرَةُ التي حلمتَ بِهَا فتىٰ غضّ العمرِ، وصديقةَ أيام شبابِك النّاهض، وشريكتك النّاضجة، وأمُّ أبنائك الّذِينَ فلذات من كبدِك.
ولا تكونُ الرّفيقةُ جاريةً رقيقة تُحَكمُ بسوطٍ بَلْ حُرّة تُشاطر الرّأي والحُكم ولها ما لرفيقِهَا من حقوقٍ وامتيازاتٍ، تحفظ كرامة إنسانيَّتِها وتجعلُها سيدةَ ذاتِها لا أسْمَالاً مُمَزَّقَة مُرقعّة مُربوطة خلفَ الدّوابِ وزوايا الحجراتِ.
إن الرّفيقة في البطانةِ والحاشيةِ والأحبّةِ والخلّان والأصدقاء، عرشُها في صدرِ الرّفيقِ وهي دائما قدّام الرّفيق ومنه قريبة وملازمة.
إنها ملكة متوّجة في قلبِ الرّفيق وعلى رأسِهِ التاج.
سيَّان كما الرفيق الرفيقة في الميزان صنوان في ذات الدرجة وما منهما على الآخر بميزة خلا ما يجبي كلاهما من خُلق وفضيلة وسمو.
الرّفيـقُ لا يظلـمُ الرّفيقـةَ أبداً ولا يحيقُهـا ما تكرهُ ولا ما لا عنهُ ترضى̍، لأنَّهُ إنْ يفعل ذلك لا تغدو رفيقة لهُ إلَّا من زيفِ ظاهرٍ، إذْ الحرِيُّ بالرَّفِيقةِ الرَّحْمَة والمَحَبَّة فمَا هِي بِالعَدُوُّ اللّدَّاءِ.
وإنْ يَسْتَسْيِدْ عليها يصير بالتّأكيد دون مستوى̍ الرَّفِيقة التي تخلص لهُ الرِّفقة ورفقة لا يستحق، فلا يبلغُ رحبَ مداها ولا عمقَ سرِّها ولا أجنحةَ حُرِّيَّتها وألقَ سناها، إذ يعمىٰ فيهِ الفُؤاد والوعي والبَصر، وكذا هي أنْ صَارت على رَفِيقِها بِوَهقٍ وظلمٍ.
وليعلم الرّفيقان أنّ كلّ منهما الحريُّ بلا عنانٍ يطوِّقُ عنقَهُ مربوطاً في قبضة رفيقه، لأنَّ الرّفقة حرّيَّة تنتهي حين يستعبد أحدهُما الآخر أو يكون عليه بِوَطاةِ قيدٍ ولو من مكان بعيد، أو بضائقةِ ضراوةٍ وبلاء كريهة.
ولا يكون الرّفقاء معاً بِقيود أربطة، فلا يربط الحرُّ حرًّا، وهل يربط إلّا حيوانا وَحشا وعدوًّا مجرما.
إنّ الرّفيقة حرّيَّةٌ وعطاءٌ كالنّسماتِ اللّطافِ تنعشُ الرُّوْحَ وكالشّجراتِ المثمراتِ لكأسِ الجسدِ، وأجنحةُ النّورِ لِفيضِ الجَّمالِ.
ولا يكون الرّفيقُ والرّفيقة في السّراءِ دون الضّراءِ، بل رفيقان في الأفراح والأحزان، يرقصان معا في بهجةِ الهناءة ونعمة الخيرِ ويعينُ كلّ منهما الآخر على مشقّة الحياة ونوائب الزّمن.
فكونُوا معاً أيُّها الرّفقاء في راحة الرَّخاءِ ولأوَاء الشدةِ، وفي الدّموعِ والألمِ كما في المسرّة والعافية، وما الأنانيّة الاستحواذِيّة إلا لِمَن لمْ يبلغ بعد سنّ الفطام النَّفسِيّ، ذلِكُم لمَنْ لمْ يصبح بعد في الواعِيَة إنساناً فهُو على الأنةِ في خيْلاءِ العُجبِ ومن بَلاهةِ نظرٍ.
إنّكم أيها الرّفقاء تسيرون في دربِ الحياةِ ذاتهِ مَا لمْ يُعثِّرُ أحدُكم الآخرَ، فلئن تسيروا في العثرة آنذاك ينشق الدَّربُ عليكم لزائِغاتِ متاهاتٍ هيهات لكُم منها من منجاةٍ إلا من رجعٍ متينٍ.
والحقّ لا يبخل الرّفيقان أحدهما كلّ ما يملك، يأكلان من طبقٍ واحدٍ ويشربان من نفس الكأس ويضطجعان في المضجعِ ذاتهِ وعلى ذات الطريق يسيران.
كونُوا رفقاء في المحبَّة، ٱزدَهِرُوا في الحَياةِ ولتتجمَّل بِكُمْ أكثر.
الرَّفِيقةُ رُوْحُ الفِرْدَوْسِ الّتي تحرِّكُ أجنحتَها بِنشواتِ منشرحِ الرَّوقةِ، ٱبتِسامةُ الطّفلِ حين بالمحبّةِ يُجنحُ في الصّفاءِ، أغنيةُ الرّبيعِ والفرحِ، اِنبثاقُ الكونِ من الحركةِ في العدمِ، إنّهما قطرُ المَاءِ الرّقراقِ لحياةِ الطّبيعةِ، قوَّةُ البذار في كبدِ الفصولِ للبقاءِ، هُدَىٰ الفُؤاد الضَّائِعِ لمشرق النور، نُبُوغُ عاقِلة الحِجا لإدراك كلَّ مكنونٍ، طمأنينةُ النفس على صدر الحياةِ، ٱستقرارُ القلوب وللأرواحِ السّلام، فطوبَىٰ للرُّفقاء.
والحقّ أقولُ أيّها الإنسانُ وبكلّ ما في الرُّوحِ من عطشٍ لمعانقةِ الحبِّ أن ترددَ عالياً منشداً :
ألآ إن حبّي لاِمرأَتِي الحبيبة أقوىٰ من السّقوطِ والاِنكِسارِ، عشقي لا يشربُ لإرواءِ عَطَشِهِ إلّا من كأسِ حبِّها، ولا يثملُ إلّا من عصيرِ ثمارِهَا لأنّها هي الشَّجرة والثمرُ والظّلال، ولتعلم إنّ كلَّ المُغرياتِ بعد الحبيب حَبَابٌ عَلى صفحةِ المَاءِ وأعمدةِ دخانٍ سرعان ما تتلاشىٰ في الهَوَاءِ، لأنّ كُلّ مَنْ يقولُ إنَّ الإنْسَان ضعيفاً لإنفلاشٍ أمام الإغْرَاءِ بمعزل عَنْ إرادةِ الحبيبان هو بَاطِلٌ مَا قدْ قالهُ، فكيفَ بِهِ وقد نالَ بالرّفيقةِ الحبيبةِ غاية الاكتِفاءِ، ألآ ليْسَ مِن مَكانٍ على الأبديِّ لِنشوةِ الأرواحِ والقلوبِ منْ مِثل بِسَاطِ الرّفيقين المُتجلّي على الوجُود، معا يحلقان وحيثما يشاءان يكون لهُم الٱستقرار.
أقول لك قلّ يا أيّها الإنْسَان إنَّ لي رفيقة حبيبة، كانَتْ بالأمسِ القريبِ إعجابي وهي اليوم صديقتي وهوىٰ روحِي وعشيقتِي وشقيقة نفسي ومدايات عميقة من روحي، ثم هي كلّ إغرائي، لا يحول بيني وبينها كلّ مُشتهياتِ العالم ما لم تكن هي معي بكليّتها.
وأقول لك يا أيّهَا الإنسان لنْ يبلغَ الحبيبان ذروة الحُبّ ما لمْ يمتزجْ كلٌّ منهُمَا في الآخرِ ٱمتزاجَ الهواءِ في الرّئةِ والمُهْجَةَ في القلبِ والأجنحة في الفضاء.
والرّفِيقان الحَبيبان لا ينبِضُ قلبُ الواحدُ فيهما دونَ الآخر، لأن الشّجرةَ لا تنبتُ وتثبتُ دونَ التّربةِ، ولا تعلق الثمرة إلا على الغصن، ولا يصدحُ الطّائرَ دون حنجرة، كذا الحبيبان كلٌّ منهما يكمِّلُ الآخرَ فأنّىٰ لأحَدِهِمَا دونَ الآخر مِن حقيقةِ حياةِ.
والحبيبان الرّفيقان كما يجب في النّورِ معاً تصيرُ لهما الرِّفقة رُبَّىٰ جَنّةِ الجَمَالِ ولا أطوع، وتصيرُ لهُمَا الحياةُ إنشودةَ مودّةٍ وسعادة دائمةِ النّبلِ والعطاءِ فلا ينفدُ إشراقها أبداً.
وعليك أن تقول يا أيّها الإنسان مؤمناً :
إن الّتي تحب روحي وتشتهي جسدي هذا شأنها، لأن الحبّ والٱشتهاء لا يكون من طرف واحد، فبالحريّ أن يتلاقىٰ الطّرفان، وأنا منعقد طرفي بطرف حبيبي وممتزج بها، ولئن شاءت الرّفيقة ان تفصل عُرَىٰ الصُّحْبَة فلهَا ذلك كمَا ذلك لي، ولكن دون أنْ تتحول المحبّة لكراهيّة والحريُّ التّنائِي بالإحسان واللّطفِ، إنّما بِحَقّ الصّدق الرّفقة تسموُّ في جمالِ الألفة وتحدوها الصّيرورة، وهل نحن إلّا إخوَّة في أسرةٍ هي عشيرة الإنسانيّةِ الواحدةِ، فبالمحبّة البَعيدة عن الأنانيّة والسّلب والإفساد الحريّ نحيا.
ثم من منكم لا يحبُّ الوردةَ الجميلةَ ولا يقبِّلُ ثغرَ الطّبيعةِ الباسمِ بجوّانِيَّة لا تعرفُ البشاعة والكذبَ إن كان من السُّلماءِ.
غير أنها الأنثىٰ رفيقتي أجمل من كلّ ذلك وأرقىٰ وكيف لا وهي الإنسان.
فطوبىٰ للأنثىٰ الرَّفيقة على أنوثَتِهَا ولا يفرِّقُها عن الذّكرِ سوىٰ القليلُ من الاختلافِ الجسديّ، والأمر في هذه الحالة في الظاهر ونسبي ولا ينبغي له أنْ يحدث فرقا واضحا البتة، وإن في أعماقِ النّفسِ لا فرقَ بينهما أبداٌ، نفسٌ واحدٌ، وهَلِ النّفسُ الكُلّيّة إلّا الرّوْح والعقل الخالص.
أليست مملكةُ النّحلِ التي تسحرُنا بكمالِ أنظمتِها وحلو عطائِهَا الشّهدي تطوفُ حول عرشِ الملكةِ الأنثىٰ التي هي ديمومةُ المملكةِ واِستمرارِها الجنسيِّ، غير أن الّذي يرتقي على مملكة النّحل ذلك إن الأنثىٰ كالذّكر والذّكر كالأنثىٰ في الميزان ٱلْإِنْسِيِّ صنْوان، وحتى إذا ما حللّنا التّفوق الجسديّ فإنّهما فيما قد تعرَّىٰ يتساويان في النّظرة الكلّيّة الشّاملة العُلويّة، ثمّ فلينظر أحدكما أنْ خيرا أيختار القوّة أم الجمال على ما يلوحُ من خدعةِ ظاهرِ، إنما لكلّ منهما إذ ما نزعْتَ القشرةَ نفسَ مقدارِ الكيلِ مِن المجموع الكلّيّ لِلصّفات، فلتُوضعْ الخناجرُ جانباً، ولتُدفنُ الأسواط، لأنّ المعركة بينهما باطلة وخاسرة وبدون أيّ وجهة حقٍّ، وكيف لا وهُمَا برُؤيَةِ حِكْمَةِ العَقلِ الوَاعِي قويان جميلان ومُتوازِيَان يَتسامقان ومَعاً مُتساوِيَان.
إن لقائي الكامل برفيقتي هو بشرىٰ النعمةِ وفخرُ المَجدِ وقمَّة الٱنْتِصَار.
لقد سئمتُ من عبوديّةِ كثيرٍ من النّاسِ لبعضهِم البعض أولئك الأنانيون، فمنذ غابرِ الأزمنةِ وهُم يُمارسون الإذلالَ والتّركيعَ والقهرَ على بعضِهِم، غير أنَّكم والحقّ أقول لكم رجالا ونساءا قد بالغتم كثيرا في بِناءِ أقبية الٱستعباد بأيديكم، لقد آن الآوان أن تَفهمُوا وتَخرجُوا من زيفِ ما أنتم فيه، وأن تتحَرَّوا من سطواتِ الخيانةِ لذاتِ ذاتِكم، فلقد أسرفتم في التّقاليد والعادات وأكثرتم من الأعرافِ التي تكرِّسُ سيادةَ جنسٍ على الآخرِ، وكل ما أوجدتم من ذلك باطلا أمام حقيقة أنفسكم العارية في العراءِ، وما تكرِّسُون إلّا الأنانيّة والتّجبر والظّلم والٱستغلال والتّركيع على مذابحِ الشّهواتِ والٱتّجارِ والجبنِ، لماذا المرأة الرفيقة هدفٌ لك يا أيّها الرّجل، تريدُ أنْ تجعلَهَا دونَكَ كما المتاع، عبدةً رقيقةً في حظائرِ حيواناتِكَ القذرةِ، تملكُ ناصيتَهَا، ودَمَها لكَ يا خائف من نفسك مُباح، ولماذا يا أيّتها المرأة الرّجل الرفيق دابة لك، أبدا نيرك عليه من وَهْمِ ضَعفك، تحرثين عليه وأنتِ كلّ ما اِهتزَّتْ قدمَاك سقوطاً في ظِلّهِ تلوذين مُلقِية كلّ أحمالك عليهِ، لأنّكم شئتُم ذلك بالعبوديّةِ كانت أفعالُكم عليكم بُؤسٌ فبِئْسَ الأوصافِ أوصاف المُسْتَسْيدِين، وبِئْس الغاية مَا تظنون، ألآ سُموم تتجرعُون بِمَا صنعتُم لبعضكم من حيث تحتسبون ولا تحسِبُون، فذوقُوا العلقمَ الذي يسكبُ كلّ منكم في كأسِ الآخرِ، عليكم إذاً الشفقة، فبالحريّ أن تشتعلَ معاركُكُم أكثرَ وتكثرَ فيكُم الرّهبةُ أشلاءً مزقاً على مذبحِ الٱستعبادِ، ما دامَ كلّ منكم يستهوي ما يفعلُ من أفعالِ الضُّعفاءِ العبيدِ الجبناءِ الفاقدو الثقة بالذّات.
ألآ يا إخوتي، رجالا كنتم أم نساءً، كونُوا الرُّفقاء الإخوة في ٱلْإنْسَانِيَّة، لا أعداءً تمُورُ بكُم البشرِيّة مَوْر الضَّلالِ، وكونوا أحرارا حتىٰ تصيرَ لكم الحياة إنشودة للجمالِ، وحتى يكون كل منكم حبيبا ورفيقاً للآخر دون قيدٍ وتجبرٍ وظلم، وبكلّ ما في الصِّدْقِ من معانٍ تتعالى عاليا كونُوا أحبّة لا أعداءً، حتى لا تنسحق أرواحُكُم على رحىٰ نكد السّقوطِ ونازلة الجبروت، لأنّكم إن أردتم الحياة كما هي في الأعماق حيويّة نشطة مرتقية تصعدُ عاليا نحو الكمال، عليكم أنْ تكمِّلُوا ذواتكم بِرحمةِ الرِّفقةِ وتوافقِ الألفةِ ومحبّةِ الحُرّيّةِ، ولا تكونُوا سيوفا مسنونةً على بعضكم بكراهيَّة الأحقاد وبسمُومِ الشقوات فتُزهق فيكم غبطة الحياة، فليس لبين أيديكم إن تتراجدوا سوىٰ الرّماد تعبثُ فيهِ عاصفة الرّيح.
الذّكر كالأنثىٰ رفيقان حبيبان، فباطل من يجعل بينهما اِختلالاً إذ هما بمقدارٍ متساوٍ في المكيالِ، ثمّ لكلّ حُكمه وميوله لِمَا يعتامُ من رفيقٍ ولكِن دُون أنانيَّةِ وعصبيّةٍ وامتلاك.
ألآ لا تعصب ولا تمييز جنسِيّ فَمَنْ مِنْكُمْ يَستطيعُ أن يدسَّ ٱبنته الأنثىٰ في التّراب أو يلقيها في أتون النار، وهو يحملُ ٱبنه الذّكر مقدما لهُ شحمَهَا الّذي ذاب في وِعَائِهِ أو عظمها الّذي تكسَّرَ قلادةً على صدرِهِ وهو عاقلٌ وَاعٍ، فليقوم الآن، وللتّوّ ويريني وَجْهه إذا كانَ في عروقهِ دم، لن تفعلوا ذلك ولن، فكفاكم زيفاً وخداعاً وكفاكم تواري في متاهاتِ الضّياعِ والسّقوطِ في حَفَرِ التّعفُّنِ، ألآ الحَرِيُّ أنْ تستحمُّوا بِنُورِ الشّمسِ وبماءِ المطرِ وندفِ الثّلجِ عرايا بين يدي الطبيعة حتى تكونُوا عن جدارةٍ رفقاءً.
الحَقُّ أقولُ لَكُمْ وبِكُلّ مَا فِي الحَقِيقةِ مِنْ نُوْرٍ، أنه لا يجوز أن تتحدثوا عن حرِّيَّةِ كلّ واحد منكم بِٱستخفافٍ، إذ بِطبيعتِكُمُ الفِطْرِيَّة أنتُم أحرارٌ، ولكِن بالأمثل أنْ يمارسَ كلّ منكم الحريَّةَ دون ٱستعبادٍ وبشجاعةٍ وثقةٍ وعلانِيَّةٍ ودُون خوفٍ من المواجهةِ أو حتَّىٰ مِن موتٍ زُؤامٍ منْ سَيْفٍ مُحْتفِدٍ .
لقد آن لكم يا أيّها النّاس الأوان أن تمحِّصُوا كل ما توارثتُمُوهُ من أفكارٍ وأعرافٍ وعاداتٍ وتقاليدٍ لتُسْقِطُوا ما هو باطل، وترتقُوا بما هو حقّ، حتى تستردُّوا إنسانيّتكم المهدورةَ في صخبِ عيشِكُم وفوضويّةِ غاياتكم وحمّىٰ عصبيَّاتِكُم النّتنةِ الهابطةِ.
لقد عجبتُ كيف يعشقُ الذّكرَ الأنثىٰ والأنثىٰ الذّكرَ وكلّ منهما يحملُ للآخر قيداً يريدُ به أنْ يكبِّلَهُ وسوطاً يريدُ أن يمزِّقَ به ظهرَهُ، وينشئُ سجناُ يريدُ أنْ يعتقلَهُ فيه عبداً ذليلاً.
ألآ إنَّ أكثركم يريدُون وبِكُلِّ قُوّةٍ الرَّفاهة لِلمجتمعِ حتى يصير لكمالِ النَّعماءِ، تخوضُون صراعاتٍ طويلةٍ لأجلِ ذلكَ، وحروب وثورات تكادُ لا تنتهي، حسنٌ ذلك ولكن أليس بالأمثل أوّلاً أن يتحققَ القِسْط بَيْن الذَّكر والأنثىٰ وهما نفساً وروحاً واحدة، الحَرِيُّ هُمَا متساويان بكافةِ الحقوق ولهما ذات أجْنُحِ الحُرِّيَّةِ، إنَّ الحِكْمَة بالوقارِ تدعوكُم أن تكُونُوا الأحبَّة الرَّفائِق، حتّى لا هوّة سحيقة أو ضحلة بينكم، وحتَّىٰ يصبح لا داعي للجُسُورِ الوَاهِيةِ بينكم البتّة، فإذا صحراءكم الرّمضاء خضلاءُ جنّةٍ وغاباتكم لا خشبا تعطي فحسب، بل أثمارا طيبة مشتهاة ودائمة عَلى مَائِدَةِ الرُّوْحِ.
ثم يا أيّها الذّكر بِئْسَ الذّكُورة ذكورتكَ وأنت تعلّقُ الأنثىٰ الرّفيقة على شفرةِ سيفِكَ، كأَضعف ما في الوُجُودِ من خلقٍ، كأنّك قد ضمنتَها طيعِّة سهلة على دسِيعتك، لقيمة ممضوغة في فيك، تبّا إذاً لكَ مِنْ ذكرٍ ذي نقص معيب لَا تجدُ نشوةَ ذكورَتِكَ الزَّائفة إلا في اِسترقاقِ وسحقِ واِستعبادِ الأنثىٰ، كأنك قد أضعتَ هويَّتك لمسخ من هُلامٍ، ولم تَعُدْ تَجِدُ نفسَك دون أنْ تضعَ خنجرَكَ المسمومَ في صدرِهَا.
غير إنَّ عَليك أنْ تعلمَ أنَّهَا لم تخلقْ لتكُنْ لك جارية تأتمرُ برأيك، وتطيعُ كلَّ ما تشاءُ له أن يكون، يجبْ أن تعلمَ أنَّها إنسانٌ تامٌ تماما كما أنت أيها الذكر دون اِختلاف، غير أن سطوتك قد صوَّرتْ لك أنها بعض ما تملكُ وبعض ما تسحقُ، فٱنظر نفسِكَ فهل تقهر وإن استطعت ذلك فعذرا لما تفعل، غير أن العذرَ يكونُ عليك لا لك في كينونتك.
قل يا أيّهَا الإنسانُ إنّ لي من رفيقتي حبيبةً تحبني وأحبها وكلانا يعشقُ الآخرَ، كذا الرّفقاءُ هانِئون قانعون متسامون مرتقون لا تخالط أرواحُهم غبارَ الأيام ولا تفسدُ الشّهوات المغرية أنفسهم ولا يدخلُ الشّكُ قلوبَهم، وكيف لا وقد جعلُوا علاقة وِحدة أفئدتِهِم أقوىٰ من لذّة كأس فوق طبقٍ ومن نعمةٍ في درةٍ بيضاءٍ، وشفافيَّة أرواحهِمْ عالياً فوق طيفٍ وما نشر على سحاب.
وكذا قل يا أيُّهَا الإنْسَان من فوقَ ربوةِ المحقلةِ وعرشِ العليّة :
أحب رفيقتي وأنّىٰ لأمرٍ كان ما كان أنْ يسلب هِي مني، لأنّها متمكنة في نفسي أقوىٰ من أي لذة ونزوة وانشغاف ولكُلٍّ مُقام.
قل أيّها الإنْسَان :
طوبَىٰ لِكُلِّ مَنْ يَعْشقُونَ الحَيَاةَ رفقاءُ أنْفُسِهِمْ، وهنيئاً لهُم صَفاء الصُّحبةِ وشهد السّعادةِ ولذّة اكتشافِ السِرِّ في كُنْهِ ذواتِهِم، وكمَا لي رفيقة لذاتي أعشقها كذلك كلّ الحريّ ليجد رفيقتهُ الحبيبة.
صمت قليلا آدم ثم أردف قائلا :
ألآ نظرتُ الأفق فإذا الطّيور أسراب وأزواج تحلّقُ في الفضاءِ الرّحبِ، ومَا كُنْتُ عَلى محيَانِ التّأمُّلِ عَنِ الأرْضِ ومَا حوَتْ بِبَعيدٍ، وها أنا ذا أقول:
ٱسمعي يا حبيبتي وليكن إصغاؤُكِ عميقاً ..
منذ النَّشأة الأولىٰ وما طوَتْ مِنْ ملايين السّنين وأنا متيمٌ في هواك ..
أنتِ في فُؤادِ قلبي حياة كَامِلة وفي وَاعِيَةِ العَقلِ نورٌ وَهّاجٌ ..
ولسوف أبقىٰ ولو لِمَلايين قادمة على صدرك النّهود ..
لِأنَّكِ يَا حَبيبتي الوَرْدَة الوَحِيدَة في صَحرائِي يَسجدُ لهَا القلبُ فِي خُشُوع .. زهرةٌ بَيْن الشّوك ودُرَّةٌ كُلّ مَا سِواها حُبَيبَات رَملٍ تطوف حول نارٍ ..
ولأنني متهيء للإبحار بعمق منذ زمن موغل في الماضي البعيد في عالمك العظيم ..
متهيءٌ أنا لِلتّحليقِ بِكُلِّ الأجْنِحَةِ فِي فضَاءَاتِ عَيْنيكِ ..
ليس إلا أنتِ أجنحة لكوَّة النور فوق مرقعةِ الدّخان لشراعِ العبور ..
فدعيني أيّتها الحَبِيبة القادمة مع أنوارِ الفجرِ أحيا في عمق فُؤادك النَّصِيح..
دعيني أحيا بِنبضِ صدركِ النَّاهدِ النَّضِيرِ مرتلاً آيات أسرار الكُون العَظِيم..
منشداً مجدك السّرمدِيّ وجمالكِ البَهِي ..
مُنشداً رفقتك على أوتار قلبي المُتيَّم عشقاً في رؤياكِ وسماع مديد نطقكِ .. أنتِ الرضى̍ والطمأنينة والسلام ..
دعيني في عمق روحك لتغني الحَيَاة المسرة وترقص حبّا وحبورًا في كلِّ الأزمان يا رائعة الأنوار والأزهار والجمال ..
ألآ يا سيدة الأعماق ويا إنشودة المحبّة الأبدية ..
ضميني بقوَّةٍ إلى قلبكِ الصَّفوانِ ..
أشرعي لي أرتاج وَحْي المُخَيِّلةِ يا رفيقتي ..
وأدخلي حُرَّة وحياة عميقة في دماي ..
حَيْث ليسَ إِلّا ذاتنا العظمَىٰ ..
حيث ليس إلّا اتحادنا الأسمىٰ ..
ليْسَ إلّا الرّوح الواحدة السّامِيَة ..
فأنتِ أجمل مَا فِي الوُجُودُ ..
أنتِ المَأوَىٰ ..
رفيقان عَلى شَاطِئِ الحَيَاة التقينا ..
نُحاكِي طيُور الصّباحِ ونُسَاهِرُ نُجُومَ المَسَاءِ ..
وموجُ البحرِ يرنمُ بِلهفة قلبينا لديمومة الرِّفقة ..
وقدْ أزْهَرَتْ في أحداقنا حُقُولُ النّورِ ..
صَارَ الرّمل تبرًا تحت أٌقدامنا ..
السّماءُ فوق رأسينا في موكبِ عرسٍ تُمطرُ الحَبَّ والحُبُور لتحي يواقيت الثمر في الخضلاء ..
فيا لِأريج الغوالي في النّسائم كَيْفَ يَنْتشرُ ..
وكَمْ تهرقُ الطّبيعة في جوقاتِهَا حوالينا من المسكِ والبخّورِ ..
غريبين ٱلتقينا على شاطئ الحياة ..
نحمل البحر والسّماء والأرض في كفّينا ..
نركضُ كغزالين ..
الحصى يصير تحت قدميكِ العاريتينِ دُرَرًا صافية الألقِ ..
الأفق بين يديك ضياءً يفيض نُورا ..
نتنقلُ كفراشتين ..
نحلقُ كطائرين ..
ثمّ نتعانق حبيبان نُخلِّي وراءنا التّوجعَ والجروحَ ومشقّةَ السّيطرةِ وأنانيّةَ التّملكِ ودموعَ لهفةِ التّحنان ..
والأنسامُ تنشدُ ما نحن فيهِ من لطافةِ الهناءِ ونشوانِ الجذلان ..
ألآ إِنَّ لقاءَنا اِشتِهاءٌ لِلحُرِّيَّةِ والحَيَاة ..
اشتهاءٌ للحبِّ ..
اشتهاء للعناق الأبديّ ..
رفيقان اِلتقينا على شاطئ الغربة ..
يلتفُّ حولنا الضّباب ويترأرأ قدّامنا سرابُ السِّنين ..
ومهما تغطرسَ غائِبُ مَجْهُولٍ لنْ نفترق ..
أبداً لن نفترق ..
أبداَ يا رفيقة ذاتي أنت وأنا حبيبان ..
وهنا سكت آدم قليلا ثم أردف قائلا :
الحَقّ أٌقولُ إنّ الصَّحو لا بُدّ دون النّكُوص أنْ يَستفيقَ، ولا بدّ للنّورِ أنْ ينتشرَ في كُلّ الآفاقِ ولَا أشرق، فكُن يَا أيّهَا الذّكر كمَا الأنثىٰ ويَا أيّتُهَا الأنثىٰ كمَا الذّكر في الإنْسَانِيّة رفيقان حُرّان ومحرران لا عبدان ومستعبدان.
ألآ طوبَىٰ للّذِينَ يَحْيَون في نُوْرِ المَحَبَّةِ والخَيْرِ والحريّة والسَّلام والجَمَالِ أحِبَّة رُفقاء.
من كتاب الإنسان النُّورانِيّ الكامل لمؤلفه :
المهندس أبو أكبر فتحي الخريشا
( آدم )
تعليقات
إرسال تعليق