قصة... الشحرور.... عبد الكريم علمي
قصة قصيرة: الشحرور.
هو عُصفوري الجميل، احتوته يداي حينما كان فرخًا، وعلى جسده الزّغب بدل الرِّيش، سقط من الشجرة مُصطدما بي، والتصق بي مُحتميا، يطلب الدِّفء والأمان، ينظر يُمنة ويُسرة، نظرة التائه الهائم في عالم المجهول، نظراته الهائمة الحالمة، حرَّكت في قلبي ذكريات كل إخفاقات السنين، ومواجعها وآلامها، ونكّأت جُرحا حسبتُه قد اندمل وشُفي، ولكنه كشف لي عن كذبة كبرى كنتُ أعيشها مُتوهما.
فيا عُصفوري الذي ربّيتُه واعتنيتُ به، وأطعمتُهُ بأطراف البنان، واستمتّ في حمايته من كل شرور الزمان، أيّ قدر ساقك إليّ، لماذا اعترضت طريقي وسدَدْتَ مساري، أما خشيت سطوتي وانتقامي من السنين بك، أما رأفت بحالي وتركتني في دربي آمنا، لماذا تُصرّ على استكمال حلقات بُؤسي ومأساتي.
ها هو عصفوري يستبدل بدل الزَّغَب ريشا، وصار يحرّك جناحيه بقوة، ويعلو بهما من مكانه، كان يُكرر ذلك باستمرار يوميا، خِلتُهُ يعزفُ لي، فرجوتُهُ في عالم باطن الشعور المرهف أن يكف ويتوقّف، وأن لا يعزف على أوتار قلبي، فإنه لن يسمع منها لحنا، لأن جميعها ممزقة، لكثرة من عزف بعنف وعبث، ورحل دون رجعة، وأمّا إذا أراد العزف وأصرّ عليه، فليرمّم أوتاره الممزقة، وليعزف صادقا برفق ولين، عزف فنان خبير مقتدر سنفونية الخلود، وحينها يمكن أن يسمع عزفا ولحنا من أوتار قوية، يُخَلّدُ ويدوم.
أمواج البحر تُغازلُ شُعوري، وصوتُ شُحروري يُهَيّجُ عواطفي، ونسيم الصباح يُوقظ أحلامي وآمالي وأمانِيّ، وأما تلك الرفرفات التي كان شُحروري يُؤدّيها طقوسًا يومية، وخِلتُها أغاني ومعزوفات، فحقيقتها أنه كان يُمَرِّن نفسه على الطيران، ويختبر جاهزيته للرَّحيل، ومثلما كانت مخاوفي وهواجسي، فقد غادر دون استئذان أو توديع، وخلّفَ في قلبي جُرحا نازفا يأبى أن يندمل و يطيب.
فلمن سأل عن سبب أحزاني، وعن الإنطواء الذي اعتراني، ولماذا لا أزور جيراني، ولماذا غادرت البسمة أسناني، فهذه حقيقة أمري وحالي، فعصفوري غادرني دونما استئذاني، وماودّعني ولم يعبأ بشأني، وأنّي ما عُدتُ كسابق عهدي أسبح حالما بين الأرض والسماء، ونكّأ جُرحا حسبتُه لغفلتي وجهلي قد برأ وشُفي، وحقيقة الأمر أنه كان غائرا، وينزف مستترا دون صوت ولا شكوى، فلمن أبكي، ولمن أشكو الجوى؟
فلطالما بكيت ولكن لمّا أكون وحدي، أبكي على نفسي ومع نفسي، فيكون عزاء نفسي من نفسي، ولطالما حزنت، فكان الحزن سبب نفور الناس مني وابتعادهم عني، ولطالما تألمت، فكان الألم عبئا ثقيلا على قلبي، إذ لم يستطع أن يُؤدّي وظيفته الأساسية، حتى زدتُهُ عبئا آخر كان فوق طاقته.
فليتني أستطيع نسيانك يا شُحروري، وأنسى بنسيانك آلامي وآهاتي، وتزول أحزاني ومعاناتي، ولكن كيف أستطيع أن أنسى، وأنت من ألهم نفسي، وفجّرَ فيها بُركانا، وأمدَّني بكل تلك الطاقات، أو كيف أستطيع أن أنسى، وأنت من أحدث زلزالا في فكري وقناعاتي... .
هي هكذا العصافير، لا تسطيع إلا أن تُشفق عليها وتتعاطف معها، وترثي لحالها، وترعاها وتهتم بها، وأنت تعلم أنها متى ما أصبحت قادرة على الطيران، طارت وفارقتك، وخلّفتك مع الوجع والأنين، وذكريات السنين، التي لن تزيده إلا تعمّقا ونزفا ووجعا وحُرقة.
بقلم: عبد الكريم علمي
الجمهورية الجزائرية
تعليقات
إرسال تعليق