مولد النور والهدى... صخر العزة
{ مــوْلـــِد الــنــور والــهُدى }
خلق الله عزَّ وجلْ الكون ، وخلقَ آدم أبو البشر عليهِ السلام ، ثُمَّ أنزلَهُ من الجنَّةٍ إلى الأرض بعد أن أغواهُ إبليس ، وبدأت بذلك مسيرة البشرية في إعمارِ الأرض ، وأصبحَ الإنسان مُستخلفاً فيها من الله لإعمارها ، وأرسلَ اللهُ سُبحانهُ وتعالى الرُسُل والأنبياء لهدايةِ البشر ، كُلُّ رسولٍ إلى قومه ، وكانَ أولهم سيِّدَنا نوح عليهِ السلام بعد سيّدَنا آدم ، حاملاً رسالة التوحيد لله وهادياً لقومه ، وتبعه العديد من الرُسُل والأنبياء كُلَّهُم يدعون إلى توحيد الله وهداية البشر إلى الطريق القويم ، وتتوالى الرسالات السماويَّة يحملها الأنبياء والرُسُل إلى أقوامهم ، إلى أن يأتي يوم 12 ربيع الأول من عام الفيل الموافق سنة 571 ميلادية ، لتحتفل الأرض وتبتهج ، وتتلألأُ السماءُ بضياءِ نجومها ؛ مُبشِّرةً بمولدِ خيرَ البشريَّةِ وسيِّدَها ، والتي فاضت أنوارُ مكة كُلَّها إبتهاجاً بمقدمه ، وفي يوم ميلادهِ المُبارك أهلكَ اللهُ أبرهة الأشرم وجنده الذينَ أتوا لهدم الكعبة ، فأرسل لهم طيوراً أبابيل أبادتهم ، قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ(2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ(3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ(4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }
وفي ليلة ميلاده ، رُميت الشياطين بالنجوم ، وسقطت كُلَّ الأصنام على وجهها ، وإرْتّجَّ إيوانُ كِسرى وسقطت منه أربعَ عشرة شُرفةٍ من شُرفاته ، وخمدت نيران المجوس ، وانهدمت الكنائس حول بُحيرةِ ساوى بعد أن غاضت ، وفاض وادي السماوة ، وغير ذلك كثير من إشاراتٍ ودلائلَ على مولد نور الهدى وسيِّد البشر .
إنَّ هذا اليوم هو يوم مولد النبي العظيم ؛ مولدُ رسولنا الكريم محمدُ بنُ عبدالله عليه صلوات الله وسلامه ، وكان يوم مولده هو مولد أمة ، وقال أميرُ الشُعراء أحمد شوقي في يوم مولده :
وُلِدَ الهُدى فالكائناتُ ضِياءُ وفمُ الزمانِ تبسُّمٌ وثناءُ
الروحُ والملأ الملائكَ حولهُ للدين والدُنيا بهِ بُشُراءُ
وقال :
يا خيرَ من جاءَ الوجودِ تحيّةً من مُرسلين إلى الهُدى بكَ جاؤوا
بيتُ النبيِّين الذي لا يلتقي إلا الحنائفُ فيهِ والحُنفاءُ
بمولد رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم ، وُلِد عهدٌ جديد من الرحمة والعدالة والتوحيد وعبودية إلهٍ واحد لا شريك له ، وانتهاء الظُلم والجهل ، وكانَ مولدهُ نُقطةَ تحوُّلً في تاريخِ البشريَّةِ جمعاء .
وعند مولد رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم ، فإنَّ أُمُه آمنة بنت وهب ، حينما وضعته خرجَ منها نورٌ أضاء مشارقَ الأرض ومغاربها ، وقد قالت أُم عُثمان بنتُ أبي العاص التي حضرت ولادةُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم : ( رأيتُ البيتَ حينَ وُضِع قد أمتلأَ نوراً والنجومُ تدنو ، حتَّى ظننتُها أنها ستقعُ عليْ ) .
عاش سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام يتيماً فقد تُوفيَ والده عبدالله وهو لا يزالُ جنيناً في بطنِ أُمه وتُوفيت أُمه آمنة وهو ما زال في السادسة من عُمره ، فانتقلت رعايتهِ إلى جدهِ عبدالمُطَّلِب حتى الثامنةَ من عُمره ليتكفَّلَ برعايته عمهُ أبو طالب ، وقد اتصف رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بكُلِّ الصفات المحمودة مُنذُ صغره ، ولُقِّب بالصادقِ الأمين في ظِلِّ أجواءٍ تعُجُّ بالجهل والوثنيَّةِ والرذيلة ، ولكن رُغم كُلِّ ذلك فقد كانَ بعيداً عن كُلِّ هذه الأجواء ، ومنَزَّهاً عنها تمهيداً لهبوط الوحي عليه ، ليحملَ أعظم رسالةٍ في تاريخ البشريَّة ؛ رسالةِ الإسلام ، وليكون القُرآن الكريم ناسخاً لكُلِّ ما سبقهُ من أديان ، ويكونُ رسولنا الكريم عليه صلوات اللهِ وسلامه خاتم الرُسُل والأنبياء ومُرسَلاً للناسِ كافَّةً ،و قد أنزله على أُمةِ العرب ، ليكونوا خيرَ أُمَّةٍ أُخرِجت للناس ، قال تعالى في سورة آل عمران – الآية 110 : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أشرف العربِ نسباً وأعزَّهم مكانةً ، فأرسلهُ لهم هادياً وناصحاً ، وتكبَّد المشقَّة والعناء ليُخرِجهم من الظُلمةِ إلى النور ومن عُبوديَّة الأوثان إلى عبوديَّةِ الله الواحد الأحد ، قال تعالى في سورة التوبة – الاية 128 : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وفي هذه الآيه الكريمة رسالة إلى أُمة العرب بأنَّ هذا الرسول أتى منكم ومن جنسِكم ومن نسبكم وعربيٌ مِثلِكم ، ومن واجبكم الإيمان برسالته وطاعته وقد أتى إليكم رؤوفاً رحيماً بكم ويخافُ عليكم سوء العاقبة.
فالإحتفال بيوم مولد خير البشرية والإيمانُ برسالته هو أمرٌ مقطوعٌ بمشروعيته لأنَّهُ أصلُ الأصول ودعامتها الأولى ، وقال تعالى في سورة التوبة – الآية 24 : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
نأمل من أُمتنا العربية والإسلامية أن تعود إلى نهج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم وإلى قُرآننا الكريم ، وأن تتوحد على كلمةٍ واحدة ، لتعود كما كانت في سابق عهدها ، فبديننا وعدالته وبرسالته السامية سُدنا العالم ، وعلينا في هذه الذكرى العطرة ، أن تكون لنا نِبراساً في سبيل نبذ الفُرقةِ والخِلافِ والتشرذُم ، وداعين إلى الحكمة والتسامُح والتآلُف والتعاون سبيلاً لتحقيق وحدة الأُمة ومواجهة الأخطار والتحديات ، ولا يكون ذلك إلا باتباع نهج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم الذي يعتزٌ بها كُلِّ مُسلم ، وعلى الله فليتوكل المتوكلون
صخر محمد حسين العزة
عمان – الأردن
27 / 9 / 2023
تعليقات
إرسال تعليق