الصعود الى القمة... فتحي الخريشا

 * الصّعود إلى القمَّة *

ٱصعدْ ..

من وسطِ الأصفادِ والرُّكام ..

من طوقِ الحصار وطوفان الأحزان ..

من خرائِب البُؤْسِ والشَّقاء ..

من عُبَابِ الوَيْلاتِ والأسْقام ..

من أنَّاتِ المُضيعِين ..

وهاوِيَة المَفجُوعِين ..

من عيون الأيتامِ والأطفال الشّاخصات بِأدمعِ الشّحُوب ووَحشةِ الاِكتراب ..

من وِديَانِ التعَّاسَةِ المظلمة بالحسرات ..

من قلوب الكادحِين التي أوهنهَا التمزيقُ والمعاناةِ والاِنكِثام ..

من جدران الزنازين وأسوار سجونِ البغي والتنكيل ..

من بين أنياب الغيلان وأسنَّةِ الحرابِ المَسْمُومَة وأدخنة النيران ..

من أفواهِ الأفاعي والذئاب والحيتان ..

من قفار المجاعات وعويل الجائِعِين .. 

من دامية قيود المستعبدين ..

من الأجداث والتوابيت والأكفان المُعدّة لبني الإنْسَان ..

من جراح الأحرار التي تتدفّقُ بِالدّم السَّخِين .. 

من دروبِ العبيدِ النَّاظرة لجَادّة التحرر نحو فضاءِ الحُرِّيَّة والانعتاق ..

من صدور اللاجئين المليئة بالصُّبار والحِرْمَانِ والحنين للعودة للدِّيار ..

من دهاليز الظّالِمِين القذرين السُّفهاء وأروقة الطاغوت..

من مستنقعات الأوغاد المنحنية جباههم لأصنام الظلام ..

من أنفاق الأكاذيب والنعيق والتطبيل وحقارة الإذعان ..

من الخوف والتبعِيَّة الدَّنِيئة المستكينة بالطأطأتِ العمياءِ ..

من الرّكوع للمجرمين الغارقين بالطّغيان  .. 

من وحل العبودةِ والانحطاط والنّفاق الممرغ بصلف دناءة الهوان ..

كذا ٱصعد من تباشير أغنيات الفجر ودفء همسات المساء ..

من زغاريد نسمات سنابل القمح حين تعانق هتافات ركبان الصباح مع كلِّ أشراقةِ ضياءٍ ..

من ضفاف أفئدة الواحات الغنّاء بشذىٰ الرّياحين .. 

من أكمام أزاهير الرُّبىٰ التي تحفها أجنحة الفراشات ..

من تسابيح البلابل المغردة أناشيد الحقول ..

من تهاليل أنوار الروح وآهات القلب المكلوم بوجيب الشقاء ..

من مسرودِ أنسجةِ التاريخ ومخايط الأبشار .. 

ٱصعدْ بالكفاح الوهاج دون ميدٍ لسقوطٍ لذروة الوصول ..

اصعدْ أيها المقاوم الحر النبيل ..

أولم يلقوك ما دار عليك من زمانٍ في ظلمة غور الجبّ وغسق عزلة السُّجُون ..

صلبوك على صليب القهر بأصفاد التعذيب ..

حاولوا ألف مرة أن يتنزعوا منك الضمير الإنساني لعتبة الشرير ..

شتموك وآمالك ونوارسك وزنابقك واقتلعوا من يديك اللّوتس والليمون والزيتون ..

جرَّبوا فيك كلّ أصناف الإرهاب والقمع والحصار ..

صبَّوا جام لعناتهم على رأسك وسمهم في قلبك المشرق بالنُّور والإخلاص..

عزلوك عن الفضاء والرّيح ونور الشَّمس ..

قيَّدوا أوصالك بالسَّلاسل والمسامير ..

جرَّوك إلى أسواق النخاسة حيث ساحات العبيد ..

ونادى مناد منهم من يشتري هذا بثمن بخس ..

تمردك نار ونور .. 

حطم بكبريائك القيود ..

حطم الدَّلالُ والجلاد والسّجان ..

ليتمرد كل خائف من رعب أي من تسلط ..

ليتمرد المستعبدين ..

لينتفض المستضعفين ..

لا لأسوق الرقيق ..

كان صمودك ولم يزل عظيمًا ..

صرخت فيهم كالرعد ..

من رطوبة زنزانتي دافء لكلّ المدائن ..

من دمي المهرق مطرًا للقرى الجائعة لتزهر السهول وتثمر الحقول ..  

شقائي صهوة أمتطي فيه ريح الشّتاء ..

أنين جراحاتي أغنيات للفرح ومن آهات روحي عاصفة تتغنىٰ بنشيد المتعبين ..

قلبي المشرع لسهامكم مأوىٰ للمشرّدين ..

فضاء للنَّوارس ..

مهاد لعشَّاق التحرر والبناء ..

وهذه الأصفاد قواطع تهدم قلاع الفساد والظلم والجبروت ومنها أجنحة لتحرر المكبلين ..

قربان أنا للمعذبين ..

أكليل غار ..

منجل للحصاد ..

محراث للأرض ..

زيت للمشاعل ..

مطر مطر ..

ابتسامة في عيون الأطفال وعزم في صدور الفتية وحكمة للشيوخ ..

أنا ريح ونار وصقارة شمس النهار ..

نسمة الحياة ولطافة النور وظل ضليل ..

اصعد ..

أيُّها المعلم المبجَّل العظيم ..

جراحنا دامية وليس إلانا وسط النار ..

أطفأوا عيوننا وأغلقوا علينا منافذ الدُّروب ..

أخذوا أحبتنا إلى الليل المدّلهم واختلسوا كدَّنا ومأونة ثمارنا ..

باعونا في المزاد العلنيِّ للصوصِ الضِّباعِ بحفنةٍ من الذَّهب ..

باعونا عبيدا ليجلسوا في خيدع أبّهة حُكم ..

اشترانا الغرباء خدًّاماً حقراءً وعبيداً بلا دماء..

فلا الأرض أرضنا ..

ولا الهواء والماء لا ولا الحرِّية من حقنا ..

والصمتُ خنجرٌ في الخاصرة فليس إلا عواء الكلاب ..

أعشاشنا للغربان ..

عيشنا علقم وكبت ..

ترى كيف نرىٰ والنّور أطفئ في بصائرنا ..

كيف نأتمن على خطوة دون أن نُطفأ لِمفتعل مرضٍ أو سابق موتٍ ومفتاح الشريحة في قبضة طواغيت الخبيث اللَّعين .. 

كيف نحبّ والكراهِيَّة تُسكب فيما بيننا بكل فنون الفتن ..

كيف نجتمع ونحن مطاردون والتشريد والهجرة ندفع إليها بالحصار والقوَّة لمحيق الهلاك ..

كسَّروا السّيوف في أيادينا ..

أوجدوا لنا مساراتٍ تهوي بنا إلى وديان سحيقة ترابها الرّماد وحصادها الخراب ..

ليست القوة فضيلة دون رصدها للخير والسَّلام ..

لا وليس السلام للاِستسلام ..

ليس التفوق أن أسحق أخي الإنسان ..

ليست الحياة حكرًا للأغنياء ففي الإنسان البسيط الفقير المكافح صفاء ومحبة وجمال تسجد لها الشّموس والنجوم في خشوع ..

جراحنا دامية والغشاوة على العيون ..

ضباب حولنا وعلينا أنياب الكواسر ومؤامرات الذُّعر والتفقير..

فهل نذبل ونسير موتىٰ على درب الحياة نحملُ على أكتافنا تابوت الأرض والإنسانيَّة والإنسان ..

في جنازة يديرها المشعوذون أبناء الظلام ..

ألآ الحريُّ يا أحبتي لن نهوي أغذية لمصَّاصِي الدماء ..

فٱصعد أيها الشعب المقاوم ..

اصعد لك الرّابية والقمَّة والمجد ..

لك العزَّة والعظمة والشّموخ ..

لك حصن الأبطال الحصين ..

لك صهيل خيول البادية وقلاع الريف ..

لك الشموع والمشاعل والنُّور ..

لك زغاريد النِّسوة وأهازيج الرِّجال ..

لك الأنهار رفدا والسهول قمحاً وبساتين الأزهارِ شهدا والجبال رفعة والبحر روقة للفكر والخيال ..

لك هتافات المدن وسناء الضياء ..

لك الأرواح تهمس بوشوشات الورود ..

لك السّيوف والبيارق والرَّايات ..

لك حُبُّ القرىٰ وحَبُّ البذارِ وتراتيلُ مواسم الحصاد ..

لك ذرىٰ الأطوادِ وثمر الأفنان ..

لك عشق الرِّيف ..

لك منبر المدينة وبهجة الأعياد وقيثارة المساء ..

لك النصر المؤزَّر ..

فافُرح أيُّها الشعب المقاوم رغم كل الجراح ..

أليس لطيف المطر يحيي الأرض بعد جفافها وينبت فيها الزرع الأخضر ..

ألا لك أنشودة الجمال والمطر ..

أليست الشَّمس تمدُّ الأرض بالنّور والدفء إذًا للأرض نشوة دوران التطوافِ حول الجوناء ..

أوليس من القمح خبزنا الذي نأكل فصار له التقديس والاِحترام ..

لك العطاء والسموُّ والعلياء ..

لك النصر المؤزِّر ..

فٱصعد ..

أيُّها المناضل ..

نحن معك كل الأحرار نقاوم ..

نحميك بسياج صدورنا أيها الوطن المستباح ..

ندوس الأشوال بأقدام عاريات ونحتمل لسع السّياط وآلام كلِّ موتٍ ..

نفجر الألغام على درب حريتنا بأجسادنا ..

نصفيِّ كلَّ الكمائن وقلوبنا نملأها بمحبة الكون وكل ذي نسمة جمال ..

فٱصعد ..

نحن كلُّنا معك نقاوم ..

اصعد ..

هيذي القرىٰ تنوح ..

جموع المستضعفين تعجُّ بِهَا الأرض ..

صرخات المظلومين تهزُّ أبراج السَّماء وأمواج البحار ..

تنأىٰ الحريَّة بلا أيٍّ من جناحٍ تزبَّد بنشيج القهر ألّا اٌلإنسانية أن تموت ..

والعقبات خلف القضبان ..

تموت كمدا بلا أجنحة وفضاء ..

ما الذي يحدث في هذا العالم ..

الأرض تختنق بسواد سموم الدخان ..

ملايين السِّنين والأرض تحترق بالأحقاد والتَّفاهات والنيران ..

ملايين السِّنين وما زال قابيل ينحر هابيل ..

الناصح على الخشبةِ كلُّ يوم يجلد وعلى المذبح الحقانيُّ يذبح ..

ولا من أحد يلبي نداء بوذا وزارا للمحبَّة والسَّلام ..

حسك وغبار ووحل يربضُ في كلِّ الأقاليم والأمصار ..

غربة وتشرد وفي صدور كثير من الناس جمرات الويلات .. 

تاريخ يزكمُّ الأنوف بدخان الكراهيَّة ورائحة الدَّم ..

سلاطين بلا هوية تظهر ما لا تبطن ودسًا على الشعوب تسللت وجلادّون قساة تتبختر بالتجبر ..

جماهير ما زالت مغيبة مستعبدة ترتجف أمام فتات المائدة وقدَّام ظلّ حياة ..

وقليلا من وميضِ أملٍ لم يزل يفيض من أفق الوصول بتهاليل تبشّر بالخلاص ..

رغم أن العظم بلا لحم يكسوهُ وتكبلهُ القيود ..

المدن كسيحة مقعدة تخنقها آفات الاستغلال وتركعها أثقال الاِستعباد ..

فإيهٍ قل لي صديقي الصالح الصريح ..

أنحس منحوس هو الإنسان ..

قدره المآتم المفجعة وطالعه الشؤم والاِنْكِسَار ..

أم هو الشرُّ ما زالت لهُ نقطة الدائرة صارعا فيها الخير ..

كيف للتشويهِ أن يعمَّر كلَّ هذا الزَّمان ..

أهُلام بشريّ نحن بلا قوام ..

تنتشر في أضلعنا الفئران والخفافيش وتوارث التعفن والتعصب وخبيثة أنفوسٍ بالأسقام ..

كلّ زمن الحريُّ فيه خلاص من حومة شرور ..

أنهبط في دورة هذا الزّمن لبقايا حطامٍ أم نصعد بأجنحةٍ من نور ..

هيذي الأرض جنَّتي ومأواي فيها أحيا وأموت ..

وهذا الإنسان أخي وابن جلدتي وكما هو أنا ..

فاصعد يا أنا أيُّها المخلص إنَّا معك صاعدون ..

اصعد دمي فداك أيُّها المنقذ الكامل النوراني الأمين ..

انهض من قلب الحطام ..

لي درب عنهُ البتة لا أحيد ..

فأنا والشَّمس والقمر والأرض رفاق ..

لي نجمة أهتدي بها في عتامة الظَّلام عني لا تغيب ..

وكوكبة من الأخوة الكوامل لن تؤول أبداً للانتهاء ..

أبدا لن تخبو لاِنطفاء ..

أنا والإنسانية حبيبان ..

سنخرج من كهفنا المرصود ..

لن تهزمنا كوابيس الظلمةِ وأشباح الغبراء ..

لا ولا التنكيل والأوباء والويلات ..

لن تهزمنا الأساطير والخرافات وجحافل الظلماء ..

أسود أبيض أزرق أحمر كل الألوان لنا وكل أشكال النجيمات ..

عشِقنا أحزاننا وهمومنا وتشرّدنا ..

ٱعتدنا الزَّمهرير والهجير والصقيع وجمرات النَّار ..

سنبلغ لا محال أهدافنا ..

ليفرح الناس بالحرية والخلاص ..

فلتخرس الكلاب المسعورة ..

وليرحل الظَّلام ..

ألآ قل معي يا رفيقي قد أنضج الكفاح حقيقة حلمنا النُّوراني كأول سنبلة في الحقل وأوَّل قطرة ترشها السماء ..

نبوءتي أسمع بوضوح صهيلها الحُرَّ كأول نغمة تدندنها جوقة الجمال وعلى مرمىٰ من بصري تدنو أنوارها صنو ضياء من أنبعث الفجر ..

اقترب الزَّمان المنتظر حاملا القمر في صدرِهِ والأرض بلا أصفادٍ ودماء ..

فهيا يا حبيبتي زغردي وتجمَّلي وتهيئي لاستعاد عرشك العظيم من أوباش الشرِّ ..

هذا زمان انفتاح البلاد على البلاد وقهر الحدود المصطنعة بين القلوب ..

هذا زمان اتحاد مثقفي الأرض للوحدة الكبرى في معتقد إنسية الإنسان ..

فٱصعد أيُّها الإنسان متمردا على كل خديعة وهوان ..

اصعد أيُّها الثائر المنقذ المخلص حرباً على الظلم والظَّالمين ..

زلزال عروش الطُّغاة لمحيق سقوط وتخطف كلَّ رأسٍ من وحشٍ ..

ٱطفئ نار الأحقاد وكل عمل شر ..

لنا المسير بعظيم الاستعداد حتى إذا ما فتحت علينا النيران ..

أطبق علينا شرُّ الظَّلام ..

أعلنَّاها حرباً مقدسة والويل كلُّ الويل للأشرار ..

فٱصعد ..

أيُّها الإنسان ..

لنا النَّصر والخلاص ..

وما لنا ألّا كُلنُّا الكواملُ الأحرارُ لذرىٰ ٱلإنْسِيَّةِ الصَّاعدُون .. .

          من ديوان ( سفر بلا عنوان ) لمؤلفه :

               المهندس فتحي فايز الخريشا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سافرت نحوك....بقلم عيسى جرابا

قل لي يا قلم… كلمات الشاعر نافز ظاهر

اجازة... علاء، عطية علي