الصلاة... فتحي الخريشا
★ الصَّلاة ★
شيخ فوق الكهولةِ ودون العَجِزِ قد غمغم متمتمًا بخفِيِّ كلماتٍ ثمَّ تقدم نحو آدم قائلا:
ما حقيقة الصَّلاة أيُّها المُعلم الأخ آدم ومَا وُجُوبها.
حينئذ سكت قليلا آدم لكأنَّما أجرىٰ في فؤادِهِ بعضَ تسابيحٍ ثمَّ تأمَّلَ الشيخ وكأنَّهُ وَلج داخلَ فضَاءِ قلبِهِ وأجنحة رُوحِهِ، ثمّ قال في صوتٍ ذي شدوٍ كأنَّ إيقاعات دفٍ تصاحبهُ أو جوقة مُوسِيقىٰ هادئة :
أيّها النّاسُ بحرارةِ العاطفةِ ومسرّةِ التولّي تنعطفون نحو الصَّلاةِ وتراتيلِها، وكذا كمَا بالقوَّةِ والصَّفاءِ تنعطفون لها كذلك من ضعفٍ وكدرٍ، ولكن الحقُّ أقول بِأنَّ الصَّلاة ٱنعِطافة بتسَابِيحِ التأمَّلِ الجماليِّ نحو ٱستكشافِ الذات لسبرِ غورها عن غلافِهَا الظّاهرِيِّ ونحو التقدم من سِرِّ جوهرِ الوُجُودِ بشراعِ وِحدةِ الكونِ على رقراقِ صفحاتِ ٱنعِكاسِ كلّ مبهرٍ ومنتظمٍ كالعقدِ المُتألقِ في صناعتِهِ على واقعِ الحُضُورِ بين يدي الإتقان، بَيْدَ أنَّ الصَّلاةَ لا قالبٌ لها وغير مشروطةٍ بحركةٍ ما أو مجموعةِ حركاتٍ لشحذ همَّتها وأطلاق أجنحتها لِراقِي الوُصُولِ لرتشاف كأسَ بَهجَةِ الطّمأنينةِ وعناقَ مبتغاها في الأعالي، وإلّا لصارت ٱستعبادًا من خرقاءِ عُبُودةٍ وأدواءِ أمراضٍ من منقعِ أوباءٍ قد تفشت وٱستحكمت بأنيابِها مهرقة مُهجة الحياةِ فوق رمادِ الخرابِ، فالصَّلاةُ حُرَّة تنبعث من أنوارِ الدَّاخلِ لتفيض على قسوةِ الظاهرِ فتهذبهُ بنارِ العشق لكُنْهِ كُلِّ جَمَالٍ، ولتحدث الاِنسِجام بين النقائِضِ وبلسمًا تصيرُ على النَّقائِصِ, لأنَّ لو حدث ٱضطرابٌ لأدىٰ إلى شروخٍ لمآلةِ الٱنهيارِ فما ٱستوت الصلاةُ لمتانتِها إلّا بأجْنِحةِ حرّةِ الفطرةِ دون أرباقٍ عليها بسوقةِ إجبارٍ، إذ ليس شهدُ الحريَّةِ كعلقمِ العُبُودةِ البتّة وما مطلقٌ كمُقيدٍ سِيَّان، فطوبىٰ لمَن كانت الصَّلاةُ كلمةُ نورٍ يقولها في فؤادِ قلبِهِ فتدُومُ بفيضِ المحبَّةِ والحبورِ في أعماقِ نفسِهِ لكامِلِ فضاءاتِ كليَّتِهِ وعلى ما ٱمتدىٰ بين يديهِ من إشراقِ جمالٍ، وطوبَىٰ لِمَن إجتازَ ضعفَ نفسِهِ وحاجة ذاتِهِ لوِسَادةٍ يتوكَّأ عليها من أحمالِ نير الحياة، فلا تكون الصَّلاة إلّا للحظاتِ لذةِ المعرفةِ وإبداعِ فِطنِ الكشفِ لِمَا هُو في مِرقاةِ ٱرتِقاءِ الإنسان، ولكن عليكم أيُّها الأحبَّةُ أنْ تعلمُوا إذا ٱجْتازَ الواحد منكُم الحاجة إلى الصَّلاةِ أيّ صَلاةٍ وحلق بطاقةِ إرادتِهِ عن ذلك عاليًا فوق الترانيمِ والأناشيدِ والتراتيلِ دون الٱنْكِفاءِ وكان قد تخطىٰ الغيبَ المُستورِ وَراءَ برقعِ الظاهرِ عن أخبالِ المجهُولِ ودون التنائِي بالأسىٰ في جديبة القفار فقد تردمت الدُّونِيَّة أسفلهُ لمعارجِ يرتقيها للعلياءِ.
أمَّا أنتم أيَّها المُضلِلون والمُضَلَلَون فقسمتكُم بمَا قسمتُمْ لأنفسِكُم فلينظر كلٌّ على ما تتغذىٰ نفسهُ وفي حريزتهِ مَا طوىٰ ثمَّ لينظرنَّ أيناهُ ورُوحهُ من فلكٍ وأفلاكٍ، فطوبىٰ الٱختِيَارُ إنْ أصلح ٱعْوِجَاجًا وأمثَّ ضعفا ولكن دون تعدٍّ وبغي ولو أمرتم من معتقدٍ ودينٍ لأنّ الكراهيَّة والظلمَ والتعصبَ من أعمالِ الفساد والإفسادِ ولا يثبت من أمرٍ على ترقِيَهِ إلّا في أفياءِ الإنسانيَّة، فضِيَاءُ الشمسِ لا يُغطيهُ ولا يحجبهُ عن فضاءِ الأرضِ سحابة شاردةٍ في الأفقٍ، لا ولا تمنعُ كفُّ اليَدِّ العاريةِ من حُرُورَةِ صقارتِها أنْ تصير على سهلٍ وغورٍ، وإنْ ٱستدارت الأرضُ عنها فلا تكاد حتى تستقبلها كما ٱنجذابُ النبتة للضِّياء، فعبثا يحاول أحدكُم أنْ يخفِي وَضح الحقيقةِ عن حقِّ الوعي لجليَّة الفهْمِ، إذن لتكن الصَّلاةُ غبطة نعمةٍ لكُم وذكاءً لصَافِي الذّهنِ بعيدًا عن هَوْمَة الخبلةِ لٱستِلاب حصافة العقلِ، لتكن عتيقة من كلِّ أسرٍ لأعالي الذات الإنسِيَّة بحقِّ تسابيحِ المحبَّةِ والخيرِ والجَمال والحُريّة والسَّلام، لتكن محلقة فوق حقولِ المُستنِيرينَ العاملين وهضابِ الزاهدِين المُتأمِّلِين وقبابِ العارفِين وقمَّمِ أولِي العِلمِ المُستغنِين.
ألآ إنَّ الصَّلاةَ قوّةُ الحقِّ وتشوقكُم لمعانقةِ جَمَالَ النَّفسِ وما يُحيطكُمْ من إبداعِ كلَّ حُسَّانِ، فليست الصَّلاةُ لبريقٍ منها أو سَناءٍ إنْ كانت على بِسَاطِ الضَّعفِ، فصَلاةُ الخُضُوعِ لا تغمركُمْ إلّا بِرِقةِ الخورِ على عتبةِ أخادِيعِ ألهِيَّة العبيدِ المُقهورين، لأنَّ الصَّلاة حريتكُم من أربطةِ الأسافلِ ولفائِفِ الأباطِيلِ كما المرزبةُ على القيدِ لكسرِهِ والزَّنْدُ على فتيلةِ السِّراجِ، وما الصَّلاة من كلٍّ إلّا بِمَا نفسُهُ عليهِ تفيضُ فلتكن نفوسُكُم ودائمًا ينابيعًا صَافِية لا تفيضُ إلا بعطاءِ الصِّدقِ لكلِّ تجلّي مسرَّةٍ وخيرِ أرفادٍ.
إنَّ الصَّلاةَ من سامِيَةِ نفسِك لحُرَّةِ رُوحِك نشوةُ السَّعادةِ ومُتهَلّلُ الٱنشِرَاحِ تقودك يا أخي ومباشرة إلى فردوسِ جمَالِكَ الإنْسِيِّ، وإن كنت على مخيط الألم والحزن فسرعانما تنقلك لٱرتِياحٍ عن كرْبٍ ولفرحٍ عن إكتِئابٍ، إذ ليس تلك بصلاةٍ التي تدرأك لمزيد من تقطيبِ التوترِ وضيقِ القلقِ وأسىٰ المرضِ وتلك التي تسقطك في أقبيةِ الٱستِعبَادِ وظلمَةِ الكراهِيَّةِ وحُمَّىٰ التَّعصبِ.
إنَّ في صلاتِك ٱرتِقاءٌ وشفاءٌ إنْ كانت بتسابيحِ المحبَّةِ الإنسانِيِّةِ على ما ظهرَ أو خفِيَ من الوُجُود وإلّا وإنْ أصبتَ بعض فوائدٍ فمَا ذاك إلّا جَني الظاهر كمَنْ يقعُ على الزّؤانِ دون حبِّ القمحِ وعلى قشرةِ الثمرةِ دون لبِّهَا، فطوبىٰ للذين صلاتهُم بين أيديهِم لذاتِهِم العليا بأجْنِحةِ الإخلاص، وإنَّمَا الحسرَةُ والإشْفاقُ على الذين يتمرغُون بصَلاواتِهِم على أعتابِ خرافةِ ألِهَةٍ وأساطيرِ أدينٍ عليهم تلقي سخافة الأهكومةِ وتتسلط باِستِبدادِ القهرِ، وعليهم بكلِّ جهالةٍ ومأفون غشِ دواءٍ تحيق، ومّا تضرعُهُم لغيرِ أنْفُسِهِم إلّا كمَا الهبَاءَة في قبضَةِ الرِّيحِ.
ليست الصَّلاةُ هيامًا في المجهُولِ ووَراءَ ربٍّ من خيالٍ منسُوجًا على أنوالِ التَّضلِيلِ، إذ الحريُّ بالصَّلاةِ في شراعِ العقلِ وسراجُها الوهَّاجُ يتقدُ من ضياءِ سليمَةِ الفُؤادِ بالإخلاص.
فمَا أقدسُ يا أحبائِي من هيكلٍ للصَّلاةِ من مثل محرابِ الضَّميرِ، ولا تكون فائقة التجلي إلا على أجنحةِ الصِّدقِ، وما يَحوز لُبَابَهَا مِنْ أحدٍ إلّا أنْ يصير على الحقيقةِ هُو الإنسَان، فالصَّلاةُ لا تكون إلّا في هيكلِ الذاتِ النورانِيِّ وإن كنتَ تقيمُها بطقوسٍ في صومعةِ تعبُّدِكَ.
الصَّلاة منك وممّا حواليك لكَ وعلى الوُجُودِ جمالا بتألقِكَ بزوَاهِرِ الحياةِ.
الصَّلاةُ بوصلتهَا لا تُوجّه أوّلا إلّا لذاتِكَ بتسبيحاتٍ يصطفيها شغفُ حشاشتِك للمحبّة والبِرِّ والحُسنِ، ومن ثمّ لكلِّ مُنتعِشٍ بنسمة رُوْحٍ وحياة.
إنَّ الصَّلاةَ نشوةِ نقاءِ النفسِ لعناقِ غبطةَ السُّرُور وكذا بين فترةٍ وأقرب هِي مصفاتكُم التي تنقيكُم مِمّا يشوبكُم من أدرانِ القلقٍ وأسنجَةِ الهُمُوم، ثم إذ ما تنكبَ أحدُكُم لزيغٍ تعيدهُ إلى الصِّراطِ المستقم، فكُلّما أحسَّ أحدُكُمْ أنَّ ميزانهُ يميدُ للٱختِلالِ فليلجأ إلى تسبيحاتِ الوِدادِ واليُمن والحُسن والٱنعتاق والٱطمئنان وليستغفر ذاتهُ عن نفسهِ ليستوِ لهٌ الميزان قويمًا.
إن الصَّلاةَ تسبيحة الإنسَانِ الحرّة للبِّ جَوهرِ الإنْسِيَّةِ النّوراءِ.
وهنا صمت آدم وبعد سكوتٍ قليلٍ شرع بصوتٍ كأنَّهُ الإنشادُ قائِلا :
الصَّلاةُ حين هي لعمق إنشادها تصيرُ بهِيَّة الإشراقِ من وَسطِ لطائِفِ الفؤادِ تعانقُ الرُّوحَ بٱتئادٍ يغمرُ النَّفسَ بالفرحِ والحِكمَةِ إذ تشرأبُها الذات بكأسِ ثمالةِ التأمَّلِ لكأنَّما النّفسُ من بعدِهَا لن تظمئَ أبدًا.
إنَّ الصَّلاةَ عناقُ سِرَّ الوُجُودِ، ذلكُم السِّرُّ الذي يزهو ٱنتِشاءً من رونقِها فيُفعمُ الأفئدةَ بألقِ وَجْدٍ يُعرجكُم لنورِ الأعالِي.
نعم إنَّها حسٌّ عمِيقٌ من ينبُوعِ الوَجْدِّ فيكم كامِنة وقبل الحُرُوفُ أنْ تشكلَ بعضًا من كلماتِهَا لأسرارِ معانِيهَا.
وإنَّها ترفعُ مَنْ في الحفرِ إلى قمَّمِ الجبالِ، تبددُ الظّلمة والضَّباب، تُحيي مسافاتِ التصحرِ قدّام البصر برُؤْيَةِ وُجُودٍ مزهرٍ بأزاهِيرِالحيَاةِ.
ألآ لكُلِّ مَنْ أحبُّ بمحبَّةٍ وسلامٍ أصلي، وأصلي لكُلِّ ما في كونٍ وأكوانٍ من مَلاحَةٍ وبَهَارٍ.
مؤتلق الصَّلاة أنْ تحبَّ نفسك دون ظلمةٍ وأنانيةٍ وأنْ تقدم المَنفعَة للآخرين، لا بالأثَرةِ من أثيمِ التعصبِ أو مِن ٱنفرادٍ بهيامٍ غير مُنتمٍ للإنسَانِيَّة يُرتقىٰ بأيٍّ من صلاةٍ، لأنَّ الصلاةَ محبَّة تبدأ في الذاتِ المنفردةِ لتتعاظم للذاتِ الكليَّةِ التي مَا من نسمَةٍ أو شيءٍ إلّا وفيها مَدْرُوءً، ذلك بعضُ أسرارِك للتوحدِ الأكبر إنْ بزهرةٍ فويق أديمِ التّربَاءِ أو بكيانٍ سماوِيٍّ يَلوحُ على أفقِ الخيال.
إنَّها التعطشُ لمَعرِفة الحقّ النّورانِيّ، فلئن طلبتَ حقيقة أمرٍ ما تجتهدهُ بصدقٍ تكن لك الصَّلاةُ إليها الشراع المتين، وإنْ بِنِيَّةٍ من إخلاصٍ الصَّلاةُ لك تصير ثمارًا يانِعة وقبل أنْ تنبعث في لبِّكَ التسابيحُ.
ألآ يا أخي إنَّك تصلّي مُسبحًا بين فترةٍ وأقربٍ فليس لك إلّا أنْ تسبح مُصليًّا من حيث تعي أو لا تحتسب، لأنّ اللحظة التي تحاسبُ نفسَك فيها هي أوّلُ مبتدأ الصَّلاةِ، واللحظة التي توقرُ فيها نفسَكَ من راضيةٍ عليها بثناءِ مديحٍ تكن لك صلاةً، وحين تطرب مُنتشٍ بثمالةِ التجلي من نشوةِ لذةٍ تنالها على أوتارِ بهجةِ السَّعادةِ تكن تلك اللحظةُ أو اللحظات لك فيها عميقَ صَلاةٍ، ولمَّا ترنو بعقلِكَ قدّام حيث فضاء الضِّياءاتِ بتفكُّرٍ يُبحرُ مع أجنحةِ الخيالِ تلك صلاة تجريها بين يديك، ولكن بفطنةِ فهْمٍ أحفظ صلاتك في ميزان الإنسان، ولتعلم يا أخي إنك حين تكون منسحقا في الزّحام وضائعا وسط الظلمات، أو تائها على السُّبل وتلهث مرهقا وراءَ طلب قوتِ معاشِك ونحو ما تريد، أو مقيدا في قبضةِ التخمةِ التي تجرجرك وأنت مُغمىٰ عليك على طرقِ نزقِ الشهوات، أو يصلبك الملل على موائد النفاق، وحين أنت غير قانعٍ راضٍ بأمر أو شيءٍ مَا الحريُّ أن تلوذ بنفسِكَ للصَّلاةِعلى بِساطِ علياءِ نفْسِكَ يَكن لك الخلاص، لو أنك تفعل كُلَّمَا نهضتَ على صُبحٍ ووَقفتَ على مساءٍ أو بين يومٍ وآخر أقرب، يكن نُورًا بين يديك مؤتلقا بالهُدىٰ يُسلكك على طريق الخير والرَّضىٰ.
إنَّ الصَّلاة رقيٌّ فوق الدّونيات، تسامقُ النّفسِ لعالي المعرفةِ وإشراقاتُ بصيرةٍ لقدّام مع سامياتِ الرُّوحِ.
إنَّ الصَّلاةَ القطرُ الذي يهبط على الأشياءِ فيغسل ما علق عليها من الأدران.
فرتلي أيتها النفسُ أبعاد الوُجُودِ، سحر الإشراق، رائعات الطبيعة، ٱخرجي من الوحلِ نافضة غبارَ الأيامِ، وٱنزعِي أسمالك البالية في عراءِ النّور، مترنمة لحظات الزمنِ الذي تتنامِينَ فيهِ لإرتقاء، الخير تحبين لا منكفئة لكراهيَّةٍ البتة، وما قيـودُ عُبُودِيّتـكِ إِلّا وَهْـمٌ أرسفتـكِ إيـّاهُ التبعيَّة الحمقــاءُ من دونيَّتكِ, فلا تلهثي وراء بقيعاتِ السَّرابِ والشمسُ جبهتُكِ، وينابيعُ العذوبة في راحتي كفّيكِ، فٱملائِي الكؤوسَ من معينِ شرابِكِ، توحدي مع الذات نورًا في نُورٍ، وأطلقِي أسرابَ حمائِمك من أقبيةِ الأسرِ، مُتعشقة الحريّة بقدسيّةِ الٱنطِلاقِ على بساطِ الأجْنِحةِ.
لو انك تنهضين يا أيتها النفس للصَّلاةِ صلاتُكِ لنورِ جمَالِ الذاتِ فيكِ حيث الإنسان في تجلّيهِ الأعظم إلّاهُ مِن وعِيٍ على أفقِ وآفاقِ إشراقٍ فلا ٱضمحلال إذًا يضمَّرُ عليكِ لقمقمِ هلاكٍ وأفناءٍ وأنت في حرارةِ النبضةِ والنبضات صنو طامسة على حواسٍ من بعدها ما لها من حياةٍ.
إن ما من شيءٍ إلّا لهُ صلاة وإنْ من صامتِ حركةٍ وخرساءِ دبيبٍ، فإنْ عانقت صلاتُكِ إيهٍ يا صديقي صلاةً أُخرىٰ ٱنكشفت مخبآت أسرار الصَّلاتِينِ لمزيدٍ من مسرَّةِ علمٍ ونشوةِ معرفةٍ وٱتساع عمقٍ لفسيحِ وُجُودٍ.
ولا أقول إلّا الحقّ إذ الصَّلاةُ تأمَّلُ البَهْجَة لنُورِ الدِّرايَةِ وإنْ خالطتها كآبة الأحزان، ذلك لأنَّ في الإدرَاكِ لذةُ السُّرُورِ ولهفة شوقٍ لأسرارِ فُيُوض التنوير, وتوقد شعلة الكشفِ بإشراقِ تلألؤِهَا المُوقر.
وما شقواتُ الفواجعِ بِمُوارية تهلّل الأمل إلّا عن بشريِّ هُو على الحقيقةِ ميت ما لهُ حقّ نسمة حياةٍ وما لهُ من حقِّ نفحةٍ من علياء الذاتِ الإنسيَّةِ.
يكفيك يا أخي الإنسان أنَّ في صلاتِك صعودُك لتصلي بين يدي ذاتِك لقدَّام أنتَ حيث أنت في مُلكِ مقامِكَ على عرشك لحيث أنتَ هُو الإنْسَانُ.
تُطهرك من الضَّعفِ والآثامِ ونخر السوس فيك لا يَجعلك دون أو فوق الناس بل بالمحبَّةِ معهم في دائرةِ الإنسانيَّةِ وإن كنت عنهم لاِنفِرَادٍ وفي حقِّ درجاتٍ على سُلَّمِ الٱرْتِقاءِ.
ولا تترك الصّلاة حين تشرق عليك من ينبُوعِ الإخلاصِ أيًّ من مرضٍ يفترسك لخبلةِ إكتِئابٍ، ولو كنت بعليلةِ نفسٍ غرقىٰ في الأدواءِ إلّا وصارت عليك نسمات لطائفٍ بأرائِج الطُّيُوبِ لبلسمِ الشِّفاءِ، وإنْ ظهر الشقاءُ مخيمٌ عليك أنْ لا مناص فإنَّ ما تراهُ من غزو أسقامٍ وحِصَار ٱعتلالٍ تصير الصلاةُ حولك بمتينِ الترسِ وعليهِ بمَضَاءِ السَّيْفِ, إنَّ في الصَّلاةِ صلابةُ القوَّةِ وسكينة الطمأنينة وحصانةِ السلام وسلطنة الرّضىٰ.
ٱقيموا الصلاة إخوتي في قلوبكم كلّمَا مادت الأرضُ من تحتِكُم وأحلولكت السَّماءُ من فوقكم بظلمات، ففِيهَا رباطة جأش النّفسِ وفيها تألقُ حُضُور الذِّهْنِ.
ألآ كلُّ مَا يصدرُ من الصَّلاةِ من أدعِيَّة لبين أيديكم إليكم ترجعُ لتصير على مرآةِ النفسِ آثارها لعينٍ ترىٰ، فليجلو كلٌّ مِرآة نفسِهِ لحُسنِ مُشاهدةٍ حتى لا يصير أمامهُ ضبابًا ويفقد الصُّوَّة على أيٍّ من دربٍ عليهِ يسيرُ.
ٱقيموها عميقة بتبصُّرِ تفكيرٍ وراحةِ طمأنينة حين تستشعرُوا الفرح أو الحزن وٱمتزجوا فيها لوحدةِ وُجُودٍ ترفعكُم لأعالِيكُم على الوُجُودِ.
إنَّ لكم في الصَّلاةِ أعراس فراديس ملآنة بٱنْبِلاجاتِ أنوارٍ طلعُهَا أفعم المسرَّاتِ نشوةً وسرورًا.
وما لبعضكم ألا يقيموها وهي منهُ إليهِ من فيضِ كلِّ ٱهتزازِ طربٍ جميلٍ لخفَّةِ أجنحة تجوب الجمال، إنْ تبتدِؤُوها لتوغلِ سُموها تكن حياة في حياتكم لخضيلةٍ نضرةٍ وسَعَةِ أنعمٍ، إنَّها طوافةُ ترحالٍ وعروجٍ ما تمرُ بشيءٍ إلّا ويشرقُ من تسَابِيحِهَا النّورانِيَّةِ ببَهجةِ نِعمَةٍ من ثراءِ عطاءٍ.
ألآ يا إخوتي لتكن كذلك صلاتكم بأجْنحةِ الإنسَانِ الكامل، ولتفعلوها فرادىٰ وجماعة كلٌّ على محيانٍ، حسنا أنْ تصلّوا ولكن بمحبَّة جمالٍ حين التنائِي بها عنِ الآخرين، وبمسرَّةِ وطيبِ ٱجتماعٍ حين أنتُمْ وإيَّاهَا في حلقةِ الأحبَّةِ أو في حلقاتِ جمَاعةٍ تتسع للناسِ كافة، لتكن صلاتُكُم في الخلوةِ برجاحةِ الإتزانِ حين كلّ منكم منفردًا عن الاِجْتِمَاع بالآخرِين، وحين تكونُوا معًا عانقُوهَا بجمالِ الألفةِ كأيٍّ من محفلِ تأمُّلٍ أو رقصٍ وغناءِ، لأنَّ لقاءَكُمْ بصِدقِ المحبَّةِ صَلاتُكُمُ الأكيدةُ.
إنَّ الصّلاةَ غذاءُ المُحبِين ومجاعةُ العشاق، مودة تتقطرُ بشهد المحبَّةِ من الشِّفاهِ بحرارةِ الٱشتِياقِ لكُلِّ نضِير مُؤانسَةٍ وغدفِ حُسنٍ، إنَّها ترنيماتُ أناشيدِ صدقِ الحياةِ وصحة المُعاشرةِ من أفئدةِ القلوب للُّبَابِهَا، وهِي الخمرةُ الرُّوحانِيَّةُ على مَائدةِ كرِيمَةِ الذاتِ تجمعُ الأحِبَّة وتوحدهُم لذاتٍ واحدةٍ في حلقةِ النّورِ.
إنَّ الصَّلاةَ أنوارنا لعناق الوُجُود الأبديِّ نُرسلها من سرمدِيِّ بذرةِ الجَمَالِ فينا، وهِي شِراعنا الذي نُبحرُ بهِ على إِتّسَاعِ رحلتنا رحلةُ الإنسَانِ للأعمقِ والأعظم، وإنَّها من أجنحِ ٱرْتِقائِنا الرَّاقِي فوق الدّونِيَّات لسُمُوِّ النَّفسِ لِسَوامِقِ الذاتِ.
الصَّلاةُ التي لا مُرَاءً فيهَا ضياءُ يشرقُ على الوعي المُتجلّي لمُكنةِ سُلطانٍ على الوُجُود, وإشراقٌ للفؤادِ لمُؤتلقِ نورٍ على مَاهِيَّةِ حيوِيَّةِ الحيَاةِ.
إنّ الصّلاةَ تواصلكُم الأجملُ مع أنفسِكم والذاتِ ومع الآخرين، وكذلك مع الحياةِ والطبيعةِ والكونِ والعالمِ يا أيُّها النَّاسُ للنّورِ الأسمىٰ.
صمت آدم قليلا كأنَّهُ حين رنىٰ بعينِيهِ قد تهادت حولهُ جوقاتُ السُّكونِ تنشدُ بسُكُوتٍ عجيبٍ أعذبَ المقطوعاتِ المُوسِيقِيَّةِ العميقةِ الإبداعِ، ثمَّ قال بصوتٍ ناهضٍ من جَوَّانِيَّةِ القلبِ نحو قلاعِ العقل :
ما أعمق تلك الترنِيمَة الجوّانِيَّة الخفِيَّة التي تصدحُ بصمتٍ وسُكون في أعماق نفسي ..
صعودا عاليًا حتى ذروة رُوحِي تصعد على أوتارِ سُلّمِ الٱبْتِهَاجِ ..
تطوي لبَّ معانِي الوُجُود في أجنحتِها والحيَاة ..
يصير منها الشعورُ مرهفا جذلانًا والقلبُ يفيضُ بنفحاتِ الإشراق ..
تلك الترنيمةُ تغدو أناشيدًا تتسعُ لكلِّ هِبَة الحيَاةِ وجمَالِ الطبيعةِ ومبلغِ الكونِ..
تتسعُ لسُكُونِ الصَّمتِ ونطق السُّكُوت ولاِنبِعاث الحركةِ من قلبِ مُحرك الإنشاءِ ..
تغدو مفتاح السِّرِّ الذي تنفذ منهُ يا أيُّها الإنسانُ مطلا من مرتفعِك الشَّاهِقِ على العالم ..
تلك الأنشودةُ هي رحلة الكشف الأوّلىٰ والدَّائِمَة لمعرفةِ الذات الكليَّة ..
لمعرفة من أنت على دربِ الواقعِ وأفقِ الضِّيَاءِ ..
الوصول لكبد الحقيقةِ على ما قدَّامك حيث كُنْهُ النَّفسِ وماهية العقلِ ولبُّ الفؤادِ كلٌّ في المكيالِ على قدرِ الٱنجِلاءِ ..
تلك الترتيلة هي جوهرُ الصّلاة، وهي كُلُّ الصَّلاةِ ..
أنْ قل يا أيَّها الإنسَانُ : أشهدُ أنَّ ٱلإِنْسِيَّةَ مُعتقدي وأنا هُو الإنْسَان ..
صمت آدم قليلا ثمَّ بفيضِ فائِقِ المحبَّةِ أردفَ قائلا :
وقبل أنْ أغيب عنكُم أذكركُم بأنَّ الصَّلاةَ همسٌ لا تكاد أنْ تسمعهُ الأذن، في حين تثمل لها النفسُ بٱنتِعاشٍ كأنَّهَا كأسُ عنبٍ معتقٍ في يومٍ عاصفٍ ثلجيٍّ لدِفءِ الأجساد وحُريَّة الأرواحِ، وإنَّ الصَّلاةُ تسبيحةُ الحِكْمَةِ وتجلّي النَّسمة للٱرْتِقاءِ في كلِّ حينةٍ مِنْ حيَاةٍ.
فهيَّا يا أيّهَا النَّاسُ لصَلاةِ الإِنْسَان، هَيَّا لمُعتقدِ ٱلإِنْسِيَّة .. هَيَّا لِلإِنْسَان.
من كتاب الإنسان الكامل لمؤلفه :
المهندس أبو أكبر فتحي الخريشا
( آدم )
تعليقات
إرسال تعليق