اعتراف رجل عجوز… بقلم ايمن سعيد

اعتراف رجل عجوز..قصة قصيرة...بقلمي.أ.أيمن حسين السعيد...سورية
أثناء فترة حمل ابنتي الصيدلانية، طلبت مني أن أنوب عنها كون زوجهامرتبط هو الآخر بتقديم امتحانه الوطني كمهندس معماري..رغم مشاغلي الزراعية، لم أرفض طلبها، فهي الوحيدة التي بقيت حولي من الأولاد الخمسة الذين تشتتوا مهاجرين ونازحين إلى ألمانيا وبريطانيا لإكمال دراستهم في الطب والهندسة، كونهم لم يعد بإمكانهم متابعة تعليمهم في الوطن بسبب الحرب التي تسببت ليس بنزوح اولادي وإنما بنزوح الكثير من الشعب السوري..إلى مختلف وشتى بقاع العالم.
كان بجوار الصيدلية، محل للمفروشات، وكان صاحبه السيد توفيق ذا ود ووجه بشوش،وكان بين الفينة والأخرى يتردد عليه والده الذي يبلغ من العمر حوالي الخمس وسبعون سنة ونيف، وكان يعاني من كثير من الأمراض، كالسكري وارتفاع الضغط واعتلال عضلة القلب بالإضافة إلى المناقير الرقبية والتهاب المفاصل..وبطبيعة الحال كان يأخذ ابنه أدويته من صيدلية ابنتي، وعندما حللت مكانها اصبح كلما جاء به ابنه إلى المحل يقول لابنه توفيق..خذني إلى أبا محمد...كنت احتفل به وكنت أكرمه بسعر الدواء،خاصة بعد أن علمت منه أنه كان موظفا للمياه في قريتنا...التي ننحدر منها، وانه استأجر عند جدي وكان قد طلب منه أن يزوجه خالتي شقيقة أمي وكانت جميييلة ولكنها فضلت عليه ضابطا...
فقلت له:
-نصيب حاج ابو توفيق ثم أنها تطلقت من ذاك الضابط بعد سبع سنين من زواجها بسبب عقمها.
-أعلم ذلك..وعدت فطلبتها ولكنها رفضت أن تكون زوجة ثانية وضرة.
-حتى زوجها السابق طلبها بعد أن رزق الولد ولكنها رفضت أيضا وبقيت طيلة حياتها بلا زواج رغم تقدم الكثيرين لها لجمالها وغناها ولكنها كانت ترفضهم جميعا..وكانت في كل سنتين او ثلاث تقوم بحج او عمرة...إلى الأماكن المقدسة.
-كانت جد شريفة وخلوقة وجميلة...وتخاف الله.
-الله يسلمك..هذا من طيبك وأصلك..
-أخي أبو محمد لا أجاملك فجدك من خيار الناس.
-حفظك الله وشدك بثوب عافيته وقوته..
وكان يطلب مني أن أعطيه دواء كان قد نفد من عنده فأعطيه إياه مراعيا له جدا..بحكم أنني مؤتمن على الصيدلية ولست صاحبها.
توفيت خالتي في اليوم الثاني والعشرين من رمضان اضطرني الأمر الذهاب إلى القرية لدفنها والاشراف على ترتيبات العزاء سيما وأنني أكبر أولاد إخوتها وأخواتها رحمهم الله جميعا..وبالتالي..أغلقت الصيدلية..لعدم ثقتي بمن ينوب عني وابنتي لا زالت طريحة الفراش كونها ولدت حفيدتي الأولى بعملية قيصرية.....تفاجأت بأبو توفيق وابنه قادمين بالسيارة إلى  خيمة العزاء...فسرني منه موقفه رغم انه بالكاد يستطيع المشي لعشر خطوات..ولا قيته مرحبا به وسحبته من يده وأجلسته بجانبي في صدر المجلس..وكانت عيناه مغرورقتان بالدمع، يكثرمن الرحمة عليها ساهما بنظره إلى الأرض.....ولم أتركه وابنه..يغادران بل استبقيته وبعض المعزين المقربين والغرباء الذين كانت تربطهم علاقة مودة بوالدي وجدي...ودعوتهم جميعا على الإفطار الذي كان احد إخوتي بتكليف مني قد جهزه...وبعد صلاة المغرب قام بجولة بدار جدي مستذكرا أيامه فيها ودلني على الغرفة التي سكن بها، وترحم على جدي وجدتي واخوالي وخالاتي..مساحة دار جدي رحمه الله تقريبا كانت مساحتها مع الحديقة تقارب الدونم ونصف ومقسمة إلى أربع منازل مقسمة ومستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض، وكان يؤجر المعلمين والمعلمات والموظفين الغرباء عن القرية...في نهاية الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات..لعدم توفر وسائل المواصلات آنذاك، وكان ابو توفيق اول موظف للمياه للبئر الإرتوازي الذي استحدثته حكومة الوحدة بين سورية ومصر في نهاية الستينيات من القرن الماضي..
في الصباح غادر باكرا وابنه...متوجهين إلى المدينة...ولحقتهم بعدها في ضحى اليوم بسيارتي..بعد ان سمح لي إخوتي بالذهاب وبأنهم سيقومون بواجب المعزين على خير مايرام.... وبنفس اليوم.
بعد صلاة التراويح..وإذ بأبو توفيق..يدخل علي وانا بالصيدلية..وقمت كالعادة وأجلسته خلف طاولة المكتب..بينما طلبت من صبي يعمل معي في الصيدلية ان يأتي لنا بالقهوة.
وبينما اقوم بعملي وأصرف وصفات الدواء للزبائن كنت أنظر إلى أبو توفيق الذي كانت دموعه تسيل على خديه بغزارة...
وعندما سنحت الفرصة للجلوس معه وناولته فنجان القهوة ...سائلا إياه..
-ما بك ابو توفيق..الدنيا فانية.. اللهم لا تشقينا...روووق..واعدل مزاجك بفنجان القهوة..
-يعطيك العافية ولكن القهوة لا تواتيني ولا تناسبني بسبب صحتي..
-حسنا..حسنا ولكن مالذي يبكيك.
-خوفي من مواجهة الله والوقوف بين يديه..
-الله رحمن رحيم وانت رجل ما أخالك إلا طيبا وأحسنت في حياتك لنفسك.
-وضحك ساخرا أحسنت لنفسي...
- مابك أبو توفيق..الله يغفر الذنوب ولو كانت كزبد البحر..
-يغفر ذنبي بحق نفسي ولكن كيف يغفر لي ذنبي بحق العباد..
وسكت برهةثم أتبع حديثه قائلا..
استلمت البئر الارتوازي لقريتكم..وكانت المواصلات نادرا ماتتوفر في بداية الأمر وعندما اصل متأخرا كان أهل القرية..يزعجهم هذا الأمر..
-نعم...
- وتكرر تأخري وبالتالي لاضخ للمياه إلى القرية البالغ عدد سكانها آنذاك أربعة آلاف نسمة..فكانوا يشتكون للمسؤولين عني في مديرية المياه..مما اضطرني أن أستأجر غرفة عند جدك...بدل ان اذهب كل يوم إلى بيتي في المدينة..
-أقسمت يومها أن لا يشرب أهل القرية قطرة ماء إلا من قبل أن أبول وأنجسها بالبراز...انتقاما لشكواهم علي..ظلوا يشربون مدة ثلاث سنوات مياها نجسة..
صدمت وهالني ما قال وهو يبكي...وعدت بالذاكرة إلى والدتي وكثير من الأشخاص كانوا قد أصيبوا بكارسينوما المرارة حصرا وينتقل منها إلى باقي أعضاء الجسم منهيا حياتهم..حتى خلت أنه هو السبب..فيما حدث لها...سقطت منزلته وقدره من عيني...قائلا له:
معظم الناس من القرية الأربعة آلاف نسمة في رقبتك بالإضافة إلى خيانتك الأمانة...وبالنسبة لي إن كان مرض والدتي قد تسببت به ولو بنسبة بسيطة فأنا لم ولن أسامحك...أبو توفيق...ما أقول لك...ولكن إذا سمحت غادر الصيدلية فورا...وأشحت..بوجهي عنه مستنكرا ومستحقرا له ولسفالته...واحتقنت حتى أني...ربطت جأشي ولم أضربه وهو يغادر....بقلمي.أ.أيمن حسين السعيد...سورية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سافرت نحوك....بقلم عيسى جرابا

قل لي يا قلم… كلمات الشاعر نافز ظاهر

اجازة... علاء، عطية علي